ما أروعكم أيها الفلسطينيون!! ما أروعنا يا قوم، ونحن نعود في ذكرى النكبة إلى أرض فلسطين، ونعفر بأحذية العودة خطوط الانتظار، ونعبر بالإرادة من بوابات النهار!.
ما أروعنا ونحن نعود في ذكرى النكبة، نعود فعلاً وليس قولاً، وندخل عليهم الباب، فعلاً، لقد دخلنا نحن عليهم الباب، وأمسكنا بالسلك العازل بين أرضنا ولجوئنا، واقتربنا خطوة، لقد توجهنا بعشرات الآلاف إلى أرضنا، هذه حقيقة لا ينكرها إلا غافل أو حاقد أو قميء، لقد اقتحمنا بأرواحنا وقلوبنا وعقولنا، وبدأنا نحن المعركة، نحن الفلسطينيين من بدأ معركة العودة، ونحن من دخل عليهم الباب لأول مرة، وسرنا متقدمين، بعد أن صار أهلنا لاجئين قبل عشرات السنين، لقد تقدمنا فعلاً، ومارسنا حقنا في العودة إلى وطننا، واشتبكنا مع مغتصب أرضنا، وأطلق علينا النار، وارتقينا شهداء، وسقطنا مضرجين بالدماء، ولكننا واصلنا مشوار العودة، وعبرت إرادتنا السياج، ووصل غبار أحذيتنا ودخان الإطارات المشتعلة إلى مكمن عدونا.
لقد عدنا، وارتبك عدونا، وخاف وارتعب من صرخاتنا، فحشد لنا ثلث الجيش الإسرائيلي، وأعد لنا كافة أنواع الأسلحة، كي يقتلنا مرة ثانية، وكي يؤكد طردنا من ديارنا مرة ثانية، وكي يعيد تهجيرنا سبعين سنة مرة ثانية، ولكننا عدنا حقيقة نحن الذين انتظرنا قرارات الأمم المتحدة سنوات، وانتظرنا الجيوش العربية سنوات، وانتظرنا الاتفاقيات السلمية والمفاوضات سنوات، اليوم، قررنا نحن أن نعود فعلاً، وتحركنا جسداً وروحاً في اتجاه العودة، ودخلنا عليهم الباب بالفعل، ونحن نعرف أننا سنواجه بصدورنا الموت الذي فرت منه زعامات عربية، ولكننا نعود بالفعل إلى الأرض التي باركها الله لأمتنا، فصار اسمها فلسطين وصارت عاصمتها القدس.
اليوم نعود مطراً من الرجال والنساء والشباب والصبايا، نعود بعشرات الشهداء، نوسد رؤوسهم التراب، ونحن فخورون بأننا نعود، لنعانق أرواحنا، ونلاحق نظرات عيوننا التي سبقتنا إلى هناك، فذرفت دمع الحنين، حين تنفست الرئتان هواء فلسطين، لتتعمق لدينا القناعة بأننا سنعود إليها، وهذه أول محاولة، ستعقبها محاولات، ومحاولات، فنحن أفواج وراء أفواج، وأمواج تلاطم أمواجا، سنعود، ونكررها سنعود، نقولها، ونمارسها، ونقترب في كل مرة من أرضنا أمتارا، سنعود، ولا بد أن نصل بعد يوم أو يومين، بعد محاولة أو اثنتين، بعد شهر أو اثنين، بعد سنة أو سنتين، سنعود طالما توفرت لدينا النية في العودة، وطالما زرعنا هذه الإرادة في نفوس الأجيال، ومارسنا حقنا في العودة بالفعل الميداني، ولم نكتفِ بالكلام الإنشائي.
سنعود رغم وعورة الدرب، وطول المسافة، ومشقة السفر، سنمارس فعل العودة ونحن نعرف أن عدونا يترصدنا بالرصاص، سنعود ونحن نعرف أن عدونا قد أعد لنا الكمائن، وحلق من فوق رؤوسنا بالطائرات، سنعود ونحن نعرف أننا لا نلقي بأنفسنا إلى التهلكة، فالتهلكة هي بقاؤنا لاجئين سبعين عاماً دون أن نتقدم خطوة في اتجاه العودة، سنعود، ونعرف أن التهلكة هي المهادنة، والانتظار خلف خطوط الهدنة، دون فعل شيء، لذلك سنمارس حقنا في العودة، ونحن نعرف أن عدونا لن يسمح لنا بالعودة قرارا وجهاراً، ولن يسمح بحضورنا الذي يؤكد غيابه عن الذاكرة التاريخية، وغيابه عن الرواية الموضوعية، وغيابه عن الاستقرار والأمن الذي حلم به في بلادنا، لذلك نجحنا في العودة، حين عدنا قضية سياسية إلى واجهة الأحداث، وحين عدنا بكرامة إلى وحدتنا الميدانية، وحين عدنا ببرنامجنا السياسي إلى منبت الصراع مع عدونا، وحين عدنا واثقين إلى أنفسنا نستنهض عزائمنا، ونقلب صفحات تاريخنا وعروبتنا ووطننا الذي نغسله كل صباح بدمنا، ونلفه كل مساء بأرواحنا التي تدق على أبواب العودة.
لقد عدنا فعلاً، ودخلنا عليهم الباب، ورجفت مفاصلهم، وارتعبوا، ولا صحة لكلام المشككين ، والراجفين من المواجهة، لقد عدنا فعلاً، وكسرنا خط الهدنة، وما زال وقع أقدامنا يدوس على السلك الزائل، فإذا بالصديق والحبيب والقريب والإنسان يقف معنا، ويصرخ باسمنا، وينادي علينا، وما أكثر الشرفاء والمخلصين على مستوى الأرض! فهنالك من سحب السفير وهنالك من طرد السفير، وهنالك من أفاق من ضلال، وناصر حقنا، وهنالك من بدأ يعيد حساباته، وهنالك من ارتعب من جرأتنا، فقرر أن يتآمر علينا، ولكننا عدنا، وقعدنا لهم في الطريق الواصل بين الحلم والواقع، ونصبنا لهم الكمائن في الطريق الفاصل بين البقاء والفناء.
لقد عدنا يا فلسطين؛ وتركنا من خلفنا سؤالا لما يزل يقفز عليهم من فوق الأسوار، ويتسلل إليهم من تحت الأسلاك، ويطوف على الكنس اليهودية صباح مساء، ويترصدهم على طريق المدارس، ويدخل عليهم البيوت التي ظنوا أنها آمنة، سؤال مؤرق ومزعج ومخيف يدق عليهم الشبابيك، ويختلس النظر إلى عيونهم، سؤال يقفز لهم من فوق سور الحديقة، ويتسلل إليهم من صنابير المياه، ويتدحرج كعاصفة أمام أطفالهم، ويزاحم خطواتهم على درجات البيت، سؤال مرعب يقول لهم: من أنتم؟ فهؤلاء هم العرب الفلسطينيون؟ لماذا أنتم هنا، وقد تحرك العائدون؟ إلى متى ستختفون خلف الأكذوبة، وهؤلاء هم أصحاب الأرض الحقيقيون؟ إلى متى ستزعمون بأنكم المنتصرون، وهؤلاء هم الفلسطينيون أحياء عند ربهم يرزقون؟
لقد عدنا، وتركناهم مرتبكين متشككين ببقائهم في أوطاننا بمقدار ثقتنا بعودتنا، لقد عدنا، فاهتزت البنادق بين أيديهم رعباً، فأطلقوا علينا النار بغزارة، وبالغوا في قتلنا، إنهم يقتلوننا كي يؤكدوا لأنفسهم أنهم باقون، وأنهم فوق أرضهم كما يزعمون، وأن هذا وطنهم كما يحلمون، وأن هنا تاريخهم، وأنهم يدافعون عن وجودهم، فأطلقوا علينا النار بلا حساب، وصبوا فوق رؤوسنا سحائب الغاز والعذاب، وبالغوا في القتل والخراب، كي يؤكدوا لأنفسهم أنهم باقون، وأنهم قادرون، وأنهم حاضرون، بعد أن غيبتهم عودتنا، وأرعبتهم إرادتنا، وهزتهم صرختنا، وأسقطت تاريخهم المزيف مسيرتنا، فصرنا الأقوياء مع ضعفنا، وصاروا الضعفاء رغم قوتهم، وصرنا صوت الحق الذي حملته الريح بعيداً، وصاروا صوت الباطل الذي دفنه غبار أحذية العائدين.
أيها الفلسطينيون، لقد سجلتم بمسيرة العودة تاريخاً فلسطينياً جديداً يرفض الانتظار، وأحسنتم بالمواجهة الاختيار، فأنتم أيها العظماء من يصوب المسار، وأنتم من يحدد ساعة الانفجار.