عندما وقعت هزيمة سبع وستين وتقاطر الناس من مخيمات الضفة هربًا إلى الضفة الشرقية اتخذ أبو عمر قراره بكل حدة وصرامة: لن أكرر الخطأ، لن ألجأ مرة ثانية، يكفي ما جرى معنا عام ثمانية وأربعين، هاجرنا مع المهاجرين وهم يضعون أمامنا آمالًا كاذبة "ستعيدنا الجيوش العربية إلى ديارنا في بضعة أيام"، والأيام صارت أسابيع ثم صارت أشهرًا وسنين إلى أن بلغت تسعة عشر عامًا عام سبعة وستين لندفع مرة ثانية إلى هجرة جديدة، أطلقوا عليهم اسم النازحين، كان تعداد مخيم عقبة جبر _على سبيل المثال_ ثمانين ألفًا فأصبح ألفين.
ويصر أبو عمر على البقاء، مهما كانت المخاطر محدقة، ومهما كانت الظروف المعيشية قاسية، لا يريد أن يكرر الخطأ، ومثله كثيرون، في حين أيضًا كثيرون كرروا الخطأ، ولعل ما جعل أبا عمر يستخلص العبرة عدة أمور، منها _مثلًا_ ما تجرعه من آلام اللجوء يفوق مائة مرة لو مات ودفن في أرضه، هكذا كان يقول، وكذلك أن له أخًا لم يهاجر سنة ثمانية وأربعين وبقي متمسكًا بحقه وثابتًا شامخًا في مدينة يافا، خلف عشرة من الولد، وكل منهم خلف كتيبة، وكانوا وما زالوا علة على قلب الاحتلال هناك، استنتج أبو عمر أن المرء بإمكانه _ولو بمفرده_ أن يتحدى الاحتلال، وأن يصمد ولا يهاجر، مهما بلغت المخاطر، ومهما تكالبت علينا القوى المحلية والإقليمية والعالمية، المطلوب ألا تهاجر وأن تبقى صامدًا، وألا تتيح لهم فرصة استقدام مهاجر جديد على حسابك.
على هامش معرض فلسطين الدولي للكتاب استمعت إلى ندوة عن اللجوء والنكبة، الدكتورة هنيدة غانم مديرة مؤسسة (مدار للدراسات الإسرائيلية) شرحت موقفًا مفاده أن العوامل الداخلية كانت سببًا لهجرة الفلسطينيين، وأنه كان بالإمكان أن ننتصر على هذا التطهير العرقي الذي قامت به العصابات الصهيونية، لو أردنا ذلك، ولو توافرت لدينا العوامل الذاتية للمقاومة والتحدي.
خالد الحروب كانت له وجهة نظر مغايرة، وهو أن النكبة كانت لا محالة قائمة، وأن العوامل الخارجية والإرادة الدولية والقوى العالمية التي كانت تقف مع الحركة الصهيونية لم يكن بالإمكان التغلب عليها، مهما كانت جهود الفلسطينيين الذاتية.
أبو عمر عندما قال: "لن أكرر الخطأ" كان ذلك تلخيصًا للأمر، وخلاصة بحث طويل اعتمل بداخله مدة تسعة عشر عامًا (ما بين الـ48م والـ67م)، وشكل بذلك قمة الوعي السياسي، بداية اعترف أن ما حدث هو خطأ، ما قمنا به هو أننا أخطأنا بترك بلادنا والركون إلى وعود وآمال زائفة ليس لها رصيد، ثم لو أننا لم نخطئ ذلك الخطأ المصيري وبقينا في قرانا ومدننا لاختلف الأمر، ولما تمكن هذا الاحتلال من فلسطين بهذا الشكل المريع، ثم يترتب على ذلك ألا نكرر الخطأ، مهما حصل، فلو وصلت قياداتنا إلى ما وصل إليه أبو عمر لعملوا الاحتياطات اللازمة كي لا تتكرر الهجرة من جديد، إلا أنهم لم يفعلوا شيئًا سوى الشعارات وتعليق الآمال على العوامل الخارجية العربية والدولية، التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
ثم هذه الأيام ما زلنا منذ توقيع اتفاق أوسلو إلى هذه الأيام لا نعمل على العوامل الداخلية بما يكفي لمنع أية هجرات جديدة، بل نسهم في الهجرة الطوعية بـ: أولًا: "سياسيًّا" الانقسام وعواقبه السوداء، وثانيًا: "اقتصاديًّا" عدم وجود الخطط والبرامج التطويرية الناجحة، والكم الهائل من الخريجين الذين تضخهم جامعاتنا إلى سوق العمل التي لا تُطوّر ولا يجد خريجونا إلا السحق من القوى المتنفذة برواتب ضئيلة لا تناسب الوضع المعيشي، ما يدفعهم إلى المسارعة إلى الهجرة في أقرب فرصة.
كلمة أبو عمر جوهرية: "لن أكرر الخطأ"، بدأ بالاعتراف بالخطأ ثم أخذ العبرة ثم القرار النهائي، وما زال بعضٌ لم يعترف بالخطأ، ويرجع الأمر إلى العوامل الخارجية، لا ننكرها، ولكنها ليست قدرًا لازمًا لا مفر منه.
وإن مسيرات العودة اليوم مشحونة بروح أبي عمر العالية التي رسالتها: لن نكرر الخطأ، وحتمًا سنعود بإذن الله، ثم المراهنة على مكنونات هذا الشعب الهائلة.