لا أنسى أبداً الدرس الذي علمني إياه مسن أمريكي كان أحد أصدقاء نادي اللغة الذي أرتاده أسبوعياً. كنت قد كتبت قصة قصيرة تحكي عن انقطاع التواصل بين أفراد الأسرة وبرز خلال أحداثها الاهتمام المادي للوالدين على حساب الاهتمام العاطفي والنفسي لابنتهما, التي كانت تشكو ذلك بشكل غير مباشر.
وبعد أن قرأ الجميع القصة واتفقنا على أن المشكلة هي عدم اهتمام الوالدين بما يشعر به أبناؤهم وتركيزهم على المتطلبات المادية, وبدأنا في طرح الحلول، فاجأنا صاحبنا الأمريكي بحله الذي طرحه حيث قال: لم لا يقترب الأبناء من آبائهم المنشغلين ويصنعون جسوراً للحوار والحديث عن الاحتياجات العاطفية وطلب الاهتمام إن لزم الأمر؟.
كان الحل الذي طرحه صديقنا طرحاً مفاجئاً للجميع، الشباب الذين كانوا على اعتقاد راسخ أن الآباء عليهم الاهتمام دون طلب، والشعور دون تعبير، وتقديم الحلول لمشاكلنا المستترة خلف صمتنا وتيهنا وشرودنا.
كان لذلك اللقاء وتلك المناقشة دوراً كبيراً في تغيير نهجي الفكري والسلوكي وساعدني على تخطي الكثير من الهموم التي كنت أتربص لحلها من خارج عقلي، ولم تكن لدي أي أفكار عن المبادرة للتواصل, فبدأت بمد جسور التواصل بيني وبين من انتظرتهم طويلاً ليهتموا بي ويسألوا عني حتى أصبحنا أصدقاءً في وقتٍ قياسي، بدأت أبث لهم همومي وبدأوا بمساعدتي لتجاوزها ولحل المشكلات وتخطي الصعاب وخوض التحديات.
تعلموا كيف تطلبوا الاهتمام وتعبروا عن احتياجاتكم بذكاء وبشكل مباشر وتقدروا مبادرة واهتمام من حولكم
إننا نكبر مع حيلنا ونحن أطفال لجذب الانتباه, فنتمارض, ونغضب, وننفرد، ونغلق على أنفسنا الأبواب, معتقدين بهذه الحيل الطفولية أننا سنلفت انتباه والدينا اللذين أعيتهما مشاغل الحياة وحنت هاماتهما متطلباتنا وأعباؤنا. ونتناسى أنهما بالمقابل يتوقعان منا الرشد في التصرف والتخلي عن الأنانية والتمركز حول الذات مع التقدمفي السن، ولهذا نظل نحن على ضفة بانتظار الاهتمام ويبقيا هما على الضفة الأخرى بانتظار سماع تذمر أو طلب لبذل المزيد من الاهتمام والرعاية، وتظل المشكلة الحقيقية هي من يخطو الخطوات الأولى باتجاه الآخر.
لا أحد سيعبر إلى ضفتك إن لم يكن هناك جسر فاصنع جسرك بعناية
أذكر قصة امرأة مسنة يائسة أوشكت على إنهاء حياتها بعد أن تفرق أبناؤها وتباعدت المسافات بينهما، وبقيت هي وحيدة دون عون أو مؤنس، وعندما همت بالانتحار ومضت فكرة في رأسها فنزلت عن الكرسي الذي اعتلته لتشنق نفسها، وجلست إلى مكتبها وشرعت تكتب الرسائل لأبنائها واحداً واحداً وتسأل عن زوجاتهم وأحفادها, واستمرت في الكتابة والإرسال لمدة دون أن تنتظر الرد، فقد كانت الكتابة في حد ذاتها حافزاً لها على الحياة والتفاؤل والاستمرار.
ولم يمض وقت طويل حتى تفاجأت برسائل من أحفادها الذين أحبوا جدتهم البعيدة القريبة بحبها واهتمامها كما وتوالت عليها الزيارات من أبنائها الذين انشغلوا عنها بمشاغل الحياة وهمومها، وكانت الساعات التي تقضيها معهم وتلك التي تسبقها لإعداد ما يحب كل من أبنائها وأحفادها من الأطعمة والحلوى باعثاً لمواصلة الحياة بتفاؤل وسعادة.
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ... فطالما استعبد قلوب الناس إحسانا
يحتاج التواصل الاجتماعي إلى تشجيع على القيام به, ولا أجد أفضل من الدين الإسلامي مشجعاً على التواصل الاجتماعي، فوضع نظاماً اجتماعياً يضمن سلامة الفرد والمجتمع بالالتزام به، فأجبر الفرد على التواصل مع والديه حتى لو كانا كافرين، وعلى صلة الأرحام والاهتمام بالجار والصديق، ولكل من هؤلاء حقوق وعليه واجبات, فإن أدى كل منا ما عليه من واجب سيلقى ما له من حقوق. وإن لم يجد, فالخير فيمن يبدأ بالمعروف ويحسن للآخر دوماً، والسلامة النفسية لمن يصل ويهتم دون انتظار المقابل بالمثل.