فلسطين أون لاين

كيف أصبحت شروق "ثمانينية" في الزنزانة؟

...
القدس المحتلة-غزة/ هدى الدلو

بعد أسرها حرمها الاحتلال وعائلتها اللقاء، وفي أول زيارة بعد شهرين كان أصعب يوم يمر على شروق دويات وعائلتها، وصفته والدتها بأنه "موت"، إذ بدأت تستشعر القيود والحرمان الذي يفرض عليها، وكأنها "عصفور" صغير في قفص، حرم التحليق في عالمه الجميل.


ولصعوبة اللقاء لم يستطع أحد منهم التفوه بكلمة واحدة سوى كلمات ترجمتها الدموع، وحركات للأيدي على الزجاج الذي يفصل بينهما فلم تستطع التلامس، ولم تتمكن من لمس يد والدتها علها تشعر بحرارة جسدها لتستمد منها القوة والصلابة، وتستشعر حنانها الذي ستفتقده مع حاجتها له، فلا تزال في سن الطفولة وبحاجة لكل هذه المعاني.


الأسيرة دويات من قرية صور باهر قضاء القدس، أصدرت محكمة الاحتلال المركزية بحقها حكمًا بالسجن الفعلي مدة 16 عامًا، وغرامة مالية قيمتها 80 ألف شيكل، بادعاء طعن مستوطن بالقدس المحتلة، إذ أسرها الاحتلال في السابع من أكتوبر 2015م بعد إصابتها برصاص جنوده.


قالت والدتها أم إبراهيم دويات لصحيفة "فلسطين": "اعتقلوا طفلتي وهي في سن الثامنة عشرة، إذ الفتاة في أمس الحاجة لتكون بجانب والدتها، لتواجه ببراءتها أقبية التحقيق، والسجن والسجان، ودخلت أعتاب سن الشباب وهي بعيدة عن أحضاني ودفء عائلتها".


شروق في المرتبة السادسة بين إخوتها، وقبل أسرها بمدة بسيطة أنهت مرحلة الثانوية العامة بمعدل 90%، والتحقت بجامعة بيت لحم بتخصص التاريخ والجغرافيا.


كان لها جو خاص وروح جميلة في البيت، فعرفت بمرحها ومزاحها، وضحكتها التي لا تغيب عن وجهها حتى في أثناء غضبها، "حبابة" واجتماعية، تحب التفاعل مع الآخرين ومناقشتهم في مختلف القضايا.


لم يكن السابع من أكتوبر يومًا عاديًّا لدى والدتها التي شعرت بقبضة في القلب، وحالة من الإعياء والإرهاق لم تعرف في البداية سببها.


سمع أقاربها وجيرانها نبأ ما حدث مع ابنتها، وبدؤوا يتوافدون إلى البيت دون أن تعرف سبب تجمع الناس عندها، فلم يكن حديثهم سوى السؤال عن بناتها تمهيدًا للحدث، ولكنها كانت تجيبهم بكل ثقة أنهن في مدارسهن وجامعتهن.


في ذلك اليوم لم يكن عند شروق سوى محاضرة واحدة، تجهزت للخروج إلى جامعتها ولكن حواجز الاحتلال وتضييقاته على الفلسطينيين حالت دون وصولها في موعد محاضرتها، وأنزلها السائق بالقرب من باب العمود.


تواصلت صديقاتها معها لمعرفة سبب عدم مجيئها، وطلبن منها الانتظار في مكانها حتى وصولهن ليتناولن إفطارهن معًا، وفي أثناء ذلك اعترض طريقها مستوطنون واعتدوا عليها وحاولوا نزع حجابها، فضربت أحدهم بحقيبتها، ليطلق النار عليها وتصاب في الصدر واليد، وتحاكم بزعم طعن مستوطن.


تركوها تنزف حتى وصل دمها إلى خمسة، ثم نقلت من أجل تلقي العلاج، حيث أخضعت لعملية جراحية وزراعة شرايين في الصدر، بعدما قطعت الرصاصة أحد الشرايين الرئيسة، وقد مضى الآن على أسر شروق عامان وسبعة شهور، غابت فيها عن أحضان والدتها.


أضافت الأم: "مع الجرح النازف بسبب غياب شروق الاحتلال لم يأل جهدًا في التنغيص علينا بضغوطات كبيرة من اعتقال لإخوتها، وفرض غرامات مالية، ومخالفات للبيت بحجة البناء دون ترخيص، وغيرها".


وبعدما نطق قاض احتلالي بالحكم على شروق طُلب منها أن تقف له وتعتذر إليه، لكنها رفضت الانكسار، وقالت لوالدتها: "ما عملت شي عشان أعتذر، وإذا عشان يخفف الحكم؛ فما تهتمي يما ولا تحملي هم، الحكم حكم ربنا، أنا طالعة بإذن الله، وأحكامهم زائلة".


ظروف السجن

"السجن للرجال" هذه المقولة قلبت حياة شروق؛ فصنعت منها شخصية قيادية قوية، فهي تدير حلقات للنقاش بعد قراءة الكتب مع الأسيرات الأخريات، وتساعد الملتحقات بالثانوية العامة في الدراسة ومراجعة دروسهن، وتحفظ القرآن، وتجهز الطعام للأسيرات وتوزعه، وتعمل على مساعدة رفيقاتها المريضات.


قالت والدتها بابتسامة خفيفة: "كانت شروق من اللواتي يحببن الأكل، وآخر واحدة بإخوتها تغادر سفرة الطعام، ولم تكن تعرف أن تصنع شيئًا منه، أما حاليًّا فقد أخبرتني أنها أصبحت تتقن الطبخ كل أصنافه، وقالت لي: (أشعر بأن تجاوزت 80 عامًا من عمري، فالسجن علمني الكثير، فهو يمثل لي مدرسة)".


في ذكرى ميلادها التي توافق 13 أغسطس شعرت والدتها كأنها فقدت حياتها؛ فهي تتجه في هذا اليوم كل عام صباحًا إلى غرفتها، لتعبر لها عن فخرها بأنها أنجبت فتاة تحمل في ملامح وجهها الفرح، فأصبح يوم ذكرى ميلادها يمر دون احتفال، بعدما خطفها الاحتلال من أحضانها فتاةً، لتدخل في أسرها مرحلة الشباب.


وفي إحدى الزيارات كانت قد أوصت أخواتها بأن يشترين لوالدتهن هدية خاصة منها بمناسبة يوم الأم ويقدمنها باسمها، ما أثار مشاعر والدتها ولم تستطع تمالكها، فبكت بكل حرقة على ابنتها التي غيبها الاحتلال عنها ظلمًا وجورًا.


لم تمل أم إبراهيم من مراجعة عداد حرية ابنتها، فكل يوم تشعر أن حريتها باتت أقرب، مع أن الحكم بحقها قد سرق منها أحلام مرحلة مهمة من حياتها، وإكمال تعليمها الجامعي.


وفي كل زيارة لابد من سؤال شروق عن طبيعة الحياة في الخارج التي أصبحت تتوق لها، وتحلم بحريتها، والسؤال عن أقاربها وجيرانها وصديقاتها، فقد اشتاقت إلى يوم الحرية، ودائمًا ما تحدث والدتها عن هذه النعمة العظيمة التي تفتقدها: "ساعة أعيش فيها بحرية أحلى من مية سنة بالسجن".


وأكثر المخاوف التي تحتل تفكيرها خوفها من فقدان قريب أو عزيز على قلبها وهي بعيدة عنه، لا تستطيع وداعه.