فلسطين أون لاين

​مخيمات العودة.. "متنزهاتٌ" سَلَبَت قلوب اللاجئين ليخطفوا "نظرة"

...
خان يونس - رنا الشرافي

الذهاب إلى المخيم ليس صعبًا، فكل الطرق حتما ستوصلك إلى هناك، وكأن في الطريق حَبل يجُرُّك إلى حيث منتهاه، لتقف أمام مدخلٍ عن يمينه سواتر ترابية مرتفعة لتحول دون استهداف قناصة الاحتلال الإسرائيلي للشبان الفلسطينيين، وعن الشِمال يقع المخيم.

200 متر

هو مخيم العودة في نقطة "خزاعة" على الحدود الشرقية لمحافظة خانيونس، في منطقة لا تبعد أكثر من 200 متر عن الحدود مع فلسطين المحتلة عام 1948، مما يتيح لك مشاهدةً حيَّة لتحركات جنود الاحتلال ومدرعاته على الشريط الفاصل.

المسافة الفاصلة بين المخيم ومنازل المواطنين تكاد لا تُذكر، فهو "الجِوار" ليس إلا، وما يلقيه الاحتلال عليه من رصاص حي وقنابل غاز، يسقط جزء منها فوق منازل المواطنين وبين سنابل القمح التي اكتسبت من الشمس لونها الذهبي الذي أنذر الفلاحين باقتراب موعد الحصاد.

تذهب إلى هناك وفي خيالك أنك سترى عالمًا آخر، عالمٌ أقرب إلى ذلك الحُلم الذي لم يُنجز بعد، ذلك الحلم الذي سيتخلص فيه اللاجئون من وصمة اللجوء وويلاته، ويعيشون أحراراً مالكين لأراضيهم.

لكن المشهد على أرض الواقع مختلف تماماً، فأول ما تقع عليه عيناك هناك، خيام العودة البيضاء، وأمامها عشرات الباعة سواء كانوا باعة متجولين أو ثابتين افتتحوا لأنفسهم مراكز للبيع، وهي عبارة عن أكشاك خشبية لعرض منتجاتهم.

وجبات سريعة، وحمص أخضر، وفول سوداني محمص على الفحم، وغيرها من الأصناف التي يدلل عليها باعتها الذين انفرجت أساريرهم بمجرد دخولك إلى المكان، فأنت بالنسبة لهم رسول من رُسل الرزق لعله يطرق بابهم.

ولكل كشك من هذه الأكشاك اسمها، وطابعها الخاص، ويتوسطها كشك "السلام" الذي حمل الصفة الأبرز لمسيرات العودة الكبرى وكسر الحصار، التي لا تنفك تؤكد في كل محفل على سلميتها حتى الرمق الأخير.

فوق الكثبان

عشرات الأشخاص تواجدوا في داخل المخيم يتنقلون بين الأكشاك والخيام والنقطة الطبية، وآخرون، وهم كثر، وقفوا فوق الكثبان الرملية التي وقفتُ دونها لا أدري ما حقيقة المشهد "فوق".

وما إن تعتلي تلك الكثبان حيث يقف الشبان والشابات يلتقطون مقاطع الفيديو لما يبدو أمامه، حتى تشاهد أربعة من جنود الاحتلال الإسرائيلي ببزاتهم العسكرية وقبعاتهم المعدنية وبنادقهم الأوتوماتيكية، يقفون مقابل السلك الحدودي الفاصل، وعلى الجهة المقابلة يقف عشرات الشبان الفلسطينيين لا يبعدون عن السلك أكثر من أربعة أمتار فقط لا غير.

وإلى جوارهم تقف مجموعة أخرى من بينهم فتاة بالكاد تبلغ من العمر عشر سنوات وبرفقتها طفل حديث المشي على قدميه تتنقل بين المجموعتين، وكان أقرباؤها على الطرفين المقابلين لجنود الاحتلال، دون أن تأبه لما قد يحصل إن أشهر الجندي الإسرائيلي بندقيته.

جسم كبير تحرك على الطرف الآخر من المخيم وفي اتجاه هو أقرب ما يكون من الشبان الذين يقفون مقابل السلك الحدودي في مواجهة جنود الاحتلال.. هذه الحركة تزامنت مع ارتفاع هتاف الشبان للتنديد بالاحتلال وإعلاء الرغبة بالعودة ولو بعد حين.

وإذ بها سيارة إسعاف وبعض المسعفين.. وقفت بعيداً متربصة بساعة الصفر أن تحين، وما إن أطلق جنود الاحتلال قنبلة غازية تجاه الهاتفين حتى تحركت سيارة إسعاف أخرى على الطرف الآخر، فكان المشهد على الحدود يبدأ بسيارة إسعاف، ويتوسطه الشبان الفلسطينيون الذين وقفوا قبالة جنود الاحتلال وعلى الطرف الآخر سيارة إسعاف أخرى، وخلف ذلك كله يقف مخيم العودة.

اليوم لا وجود لسيارات الصحفيين، ولا لكاميراتهم، التوثيق فقط هو ما تلتقطه كاميرات جوال الزوار لتلك الانتهاكات والتعديات التي يمارسها جنود الاحتلال بحق الزائرين للحدود.

ورغم تصاعد حدة المشهد، إلا أن بعض الشبان بقوا في أماكنهم، حيث يجلسون تحت شجيرة قريبة من تجمع الشبان ومعهم دلاء بلاستيكية حتى يستخدموها في كتم الغازات التي تطلقها القنابل الغازية، فيمنعون شرّها أن يصيب أجساد الشبان المتظاهرين.

"ريحة البلاد"

ومن المشاهد الملفتة في مخيم عودة خزاعة، قدوم بعض عربات "التوكتوك" وتقدمها الصفوف تحمل عائلات بأكملها، لمشاهدة جنود الاحتلال الإسرائيلي وكأنهم في نزهة.

"أم إسلام" بشير من سكان مدينة غزة، تزور مخيم خزاعة للمرة الأولى منذ اندلاع مسيرات العودة في الثلاثين من شهر مارس/ آذار الماضي، برفقة زوجها وأطفالها، عن زيارتها، قالت: "جئنا في زيارة لبعض الأقارب، وبما أننا وصلنا المكان آثرنا أن نزور المخيم".

وأضافت: "لم أتوقع أن يكون المكان هكذا، توقعت أن أشاهد الخيام فقط، وكنت خائفة من حصول أي اعتداءات من قبل الاحتلال أثناء تواجدنا خاصة وأن أطفالي معي"، مشيرةً إلى أن زوجها ترجل من السيارة لالتقاط صورة من فوق الساتر الترابي، ومعهما أحد أطفالهما فتبعتهما خوفا عليهما.

وبينت: "ولكن عندما صعدت إلى الأعلى، وشاهدت تلك الجموع القريبة من الجنود، شعرت كم أنا بعيدة عنهم، رغم أن المسافة الفعلية لا تزيد عن 200 متر، وربما أقل"، موضحة: "هبط زوجي، وبقيت أنا وأبنائي فوق التل نلتقط الصور".

أما زوجها، فقال: "رغبت أن أجعل عائلتي تشاهد المكان، فالناس أصبحوا يأتون هنا للتنزه وليس للتظاهر فقط.. أريد أن يعلم أبنائي من هم (اليهود)، وما شكلهم، وأن خلفهم أرض اسمها فلسطين، هي لنا".

أما أبو محمد النجار وهو من سكان قرية خزاعة، استقبل سؤالنا له عن سبب مجيئه بابتسامة، وقال: "آتي إلى هنا كل يوم، بعد أن أنهي عملي في تمام الرابعة أتوجه إلى هنا لأرى أصدقائي، فإن كانت هناك فعاليات شاهدناها، وإن لم تكن، نكون قد زرعنا الحياة في المكان، وهو بالمناسبة لا يخلو من الزوار".

وفي سياق متصل، قال مصطفى الرقب عن زياراته للمخيم: "أسكن في منطقة قريبة من هنا وأحضر بشكل مستمر لكنني أتأذى من رائحة الغاز المسيل للدموع، فلا أقترب كثيرا، وما إن يبدأ الاحتلال بإلقاء قنابل الغاز، أغادر، فصحتي لا تسمح".

وأشار إلى حيث يتجمع الشبان، وأضاف: "يملكون جرأة كبيرة، انظروا حتى الأطفال أتوا لمشاهدة الجنود.."، متابعا: "الناس أصبحوا يأتون من مناطق مختلفة في قطاع غزة لزيارة المخيم وحتى سكان المنطقة أصبحوا يفضلون زيارته على التنزه في أصداء".