فالملاحظ على رؤية المصلوب أنها كانت عجيبة في ذاتها وظاهرها مبشر وليس منذرًا، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}، يوسف36.
نحن عندما نقرأ الآية مباشرة ينتقل فكرنا إلى تأويل يوسف له بأنه يصلب فتأكل الطير من رأسه، لكن لو لحظة ابتعدنا عن التأويل المعهود ونظرنا للرؤية فقط، وأنا هنا أتحدث كإنسان مارس التأويل وله باع في كشف رموزه، فأقول: هذه الرؤية ظاهرها مبشر جداً لصاحبها، ولا يمكن بسهولة أن يتصور أن لها معنى منذرا لصاحبها، ولعل ذلك هو الذي شجع الفتى في طرحها ليوسف عليه السلام، بل أقول: إن ظاهر هذه الرؤية مبشر أكثر بكثير من ظاهر رؤية الساقي أو الفتى الآخر.
ما معنى أن يرى الإنسان فوق رأسه خبزاً تأكل الطير منه؟ معناه الظاهري مبشر جداً وتشير إلى حصول الخير لصاحبها وعموم الخير لما حوله، وآخر ما يمكن تصوره أنها تشير إلى الصلب، فهذه الرمزية خفية جداً في هذه الرؤية، وهذا يجعلنا نقف مع علم تأويل الأحلام، هل هبة من الله وإلهام، أم هو علم له أصوله؟
هذه الرؤية تؤكد أنه إلهام وليس علما، بمعنى أنه معنى يقذفه الله في قلب المعبر عندما يستمع الرؤية فيفهم المراد بها، وإلا ما العلاقة بين صورة الرؤية وبين مسألة الصلب وأكل الطير من الرأس، كذلك الرأس بالذات ليست محلاً للحم بشكل حيوي لكي تقصدها الطير وتأكل منها.. من هذا الوجه أقول: الرؤية ظاهرها مبشر جداً، لكنها أُوّلت على أنها منذرة جداً لصاحبها.
لكن ما الذي جعل يوسف عليه السلام يراها منذرة بالرغم من أن ظاهرها مبشر، طبعاً الإجابة ستكون الإلهام، لكن الآيات أرشدت إلى أنه علم أيضاً (ولنعلمه من تأويل الأحاديث) فما هو جانب العلم هنا والذي قلب ظاهر الرؤية نحو الإنذار بدل البشارة؟
هذا يجعلنا ننتبه إلى قضية مهمة جداً في التعبير أو التأويل وهي حال الرائي، فحال الرائي الذي علمه يوسف عليه السلام رجح جانب النذارة على البشارة في حقه، وهذا يذكرنا كيف تعامل ابن سيرين مع ذات الرمزية على أنها مرة توحي بالنذارة ومرة ترشد للبشارة، وهي رؤية الآذان حيث أولها لرجل بأنها ترشد للخير في حقه والدعوة لدين الله وإصابة علم ، وأولها لغيره بأنه سارق .. ففي كلتا الرؤيتين نفس الرمزية، لكن الذي حدد المراد بها النذارة أم البشارة كان حال الرائي نفسه.
فحال الرائي هو الذي يحدد اتجاه الرؤية، وهنا أنبه لقضية مهمة جداً وهي أن من تتبع رموز الرؤى في كتب تأويل الأحلام يجد أن الرمزية الواحدة تحمل كثيرًا من المدلولات، بل تحمل الدلالة ونقيضها في ذات الوقت، وهذا ليس تناقضاً، لأن الذي يحدد المراد من تلك الرموز الملابسات التي تحف بالرؤية وحال الرائي نفسه.
تذكر بعض كتب التفسير أن الفتيين أحدهما كان خبازاً للملك والآخر كان ساقياً عنده، وكان قد اتهما بتسميم الملك.. إذ سجنا في مؤامرة اغتيال، لكن هذه الإشارة لا أعلم مدى دقتها أو صحتها، وهي محتملة، وهذا يرشد أيضاً إلى أن الرؤى تأخذ رمزيتها من ثقافة الرائي وطبيعته .
لكن ما نستطيع أن نقوله هنا إن دلائل الحال لرائي رؤية الخبز لا تبشر بخير، وبالمقابل دلائل الحال للساقي كانت ترشد إلى نجاته، فهذا حدد تجاه التأويل.
هنا تحول الطير الذي يأكل من الخبز فوق رأس الخباز، إلى طير يأكل من رأس الخباز نفسه، وهذا المعنى لا يمكن تصوره إلا إذا صلب صاحبها حتى مات، هنا الطيور الجارحة أول ما تأتي تأتي للأعلى لأنها تمتلك الوقوف فوق الرأس محافظة على نسبة من الحذر لما حولها.. هذه الصورة لا يمكن تصورها إلا في حالة الصلب لذا كانت رؤيته بهذا الاتجاه منذرة بصلبه.
طبعاً هذا الاسترسال في بيان الرؤية هنا وهو ليس موضوعنا، لبيان أن قصة المصلوب تحمل معاني للاعتبار تتعلق بالرؤية والتأويل، لكنها ليست محل الاعتبار الوحيد والجوهري الذي سيقت القصة لأجله، وهو ما سنناقشه في مقالة أخرى.
لكن ما أريد الوصول إليه هنا: أن قصة المصلوب هي قصة ساقها القرآن الكريم للاعتبار المفضي للهداية والرحمة، وهذا الاعتبار يجعلنا نبحث عن إشاراته المتعددة، ولئن رأى البعض أن الاعتبار في الرؤية ذاتها، نقول الرؤية تحمل معاني للتعلم أكثر من كونها تحمل معاني للاعتبار مما يحملنا للبحث عن معنى العبرة في هذه القصة والتي عنوانها الأساسي هو هل المصلوب أسلم أم لم يسلم قبل صلبه؟.
يتبع...