فلسطين أون لاين

​الحاج الثمانيني شعبان: أشمّ رائحة البلاد تأتي من الشرق

...
غزة - حنان مطير

"ذبحوا الصغيرةَ أمام عينيّ في قرية سمسم، لم تكن تتجاوز الثّامنة، تركب عربة (كارو) وتنطلق لتحضر للحمارِ تبنًا، وتحت شجرة السِّدرة هناك أوقفتها عصابات الاحتلال الصهيونيّة عام 1948، والتفّوا حولَها، وراحوا واحدًا تلو الآخر يغرسون الأسياخ الحديدية في جسدِها الصغير، حتى سقطت مضرّجة بدمائها..".

عَدل الحاجأبو حاتم شعبان البالغ 80 عامًا رأسَه المستند إلى ظهر الخيمة الخاصة بأهل قرية سمسم المُهجّرة، ومعه عدل حطّته والعقال، ثم ابتلع ريقَه وصمَت عن الحديث لـ"فلسطين"، لتسقط دموعُه ويخفي وجهَه بكفّيه.

ثوانٍ من الصّمت سادت وجوهَ المستمعين الأربعة من حولِه، بجوار خيمة العودة المنصوبة على الحدود مع الاحتلال شرق بيت لاهيا، حتى مسَح شعبان دموعَه وأكمل:" لقد قتلوها بكل برودٍ ووحشيّة، ثم مدّدوها على الكيس الذي كانت تحمله الصغيرة لتضع فيه التّبن وذبحوها..".

كان الحاج شعبانُ حينها في عمر الحادية عشرة، وقد جاء متسللًا لقريته "سمسم" مع الرجال بعد بضعة أيامٍ من تهجيرهم، يوضح: "جئنا خلسةً لنجمع الأشياء الضرورية من بيوتِنا بعد أن أخرجونا منها بالرصاص والبراميل المتفجّرة، وقد رأينا مشهد الطفلة بأمّ عيوننا ولم نستطِع فعل شيء فلم نكن نملك أي سلاح، فيما العصابات كانت مدجّجةً بالسلاح".

مشهدُ طفلة الثّامنة ما يزال محفورًا في ذاكرة الحاج شعبان حتى اليوم، فهو من أقوى مشاهد الإجرام والظلم التي رآها في حياتِه، وقد ظلّ يتردّد في خيالِه وهو قادم إلى خيام العودة عند تلّة أبو صفيّة على الحدود الشرقية –وفق توضيحه-.

وكان الحاج شعبان من مواليد 1938 يرتكز على خيمة العودة الخاصة بقريته سمسم والتي غُرِست بجوارِها العديد من الخيام المخصّصة للقرى المهجّرة الأخرى، وبجواره جلست زوجتُه يُسرَى -45 عامًا-، حيث جاءت برفقته مشيًا على الأقدام مُجتازَين الشوارع الرّمليّة في وقتٍ مدّته ساعة كاملة.

ألم وفرحة

تبتسم يسرى لـ"فلسطين"، وتقول: "في طريق قدومنا لخيام العودة امتثالًا لمسيرات العودة الكبرى، رأينا على اليمين وعلى اليسار المناطق الخضراء من حقول قمحٍ وبساتين للبرتقال والليمون والزيتون، وحين وصلنا للخيام وشاهدتُ الأراضي الأكثر اتّساعًا وخضرةً والتي أصبحت ضمن حدود الاحتلال ولا يمكننا دخولَها أو الاقتراب منها، شعرتُ بالألم حقيقةً، ولكنه مختلط بالفرح".

وتضيف: "مجرّد قدومِي باتجاه أراضينا يحمل أمرًا معنويًا يشعرني بأن العودة لم تعد مستحيلة بل قريبة بإذن الله".

وتتبع: "الأرض حلوة وهي جزء من الروح.. يا ليتنا نرجع لبلادنا..".

وتخبرنا أنها حين رأت الأراضي الخضراء الرائعة، سألت زوجها الحاج شعبان كونَه عايش أيام البلاد التي لم تعايِشها هي لفرق السنّ بينهما: "هل ذكّرتْك تلك الأراضي بالبلاد؟" فكان ردّه وهو يسير هادئًا مرتكزًا على عكّازِه: "إنني أشمّ رائحة البلاد تأتيني من الشّرق".

ويروي لـ"فلسطين": "كنت طفلًا في الحادية عشرة لكنني أعمل كأي رجلٍ كبير أزرع وأحصد وأسقي وأذرو الحب وأنقله إلى (الخوابي) المصنوعة من الطين من أجل حفظها".

ويقول: "لكن العزّ والسعادة والخير انقطعت بقدوم عصابات (الهاجاناة) الصهيونية التي دخلت بلادنا، وراح أفرادها يطلقون النيران من كل حدبٍ وصوب متستّرين بالعتمة، إذ بدؤوا بدخولهم قبل بزوغ الفجر".

ويضيف: "هربنا مفجوعين من قريتنا سمسم إلى قرية برير، ثم إلى دمرة وهربيا بعد أن قتلوا جنود الجيش المصري الذي كان يعتلي مدرسةقرية برير، وبعدها هُجّرنا إلى بيت لاهيا مجتازين سوافي الرَّمل، فيما البراميل المتفجّرة تسقط فوق رؤوسنا".

براميل متفجرة

ويتابع: "لم نملك خيارًا للنجاة بأرواحِنا غير الهرب، فصار الكبار يحفرون الحفر ويُخْفون أطفالهم بها، ثم يختبئون من البراميل المتفجّرة التي تسقط فوق رؤوسِنا، فإن عطس أحدٌ أو عوى كلبٌ أو أشعل أحدهم سيجارة سقط البرميل فوق رأسِه".

يكمل ودمعةٌ جديدة تراوده: "ضَرَبَ البرميل المتفجّر أسرةً أمامنا، ففُقِئَت عينا الأمّ وقُتِل طِفلُها، فيما سلم من العائلة طفل آخر ووالدُه".

يأتي الحاج شعبان اليوم ملبيًا نداء الأرض وهو يشعر بالحسرة والألم، وفق تعبيره، إذ يقول: "إنني على يقين بأن العودة الحقيقية تحتاج لعمل كبير وجهدٍ مكثّف وموحّد خاصة إن كان الأمر متعلّقًا باحتلال إسرائيليّ لا يمكن وصفه بأقل من مجرم".

ويضيف: "لن تكون هناك عودة لبلادنا المحتلّة دون أمة عربية موحّدة".

ويتبع: "أما وجودي هنا فهو رسالة للعالم بأن لي أرضًا مسلوبة خلف تلك الحدود الزائلة بإذن الله، وأن عودتي إليها حق، ويجب السماح لي ولكل اللاجئين بالعودة لديارهم في أقرب وقتٍ وفق القرار رقم 194 للجمعية العامة للأمم المتّحدة".

ويواصل: "إنني مؤمن بهذه المسيرات وفاعليتها لأنها غير متحزّبة لفصيلٍ ما، ولأنها اتّخذت طابعًا شعبيًا سلميًا حضاريًا، فجميعنا اليوم نقف ليرانا العالم ويعرف أن حقّنا سيأخذه الشعب، وأن الشعب لا يمكن أن ينسى بلادَه مهما مرت السنوات".

ولشدة تعلّق الحاج شعبان بقريته "سمسم" فقد أتى في أول يوم للحدود في مسيرات العودة الكبرى يحمل خريطةً دقيقةً لبيوت قريته كان قد رسمها بنفسه مستخدمًا ورقة رسم بياني وقلم رصاص، ثم قام بتثبيتها عبر مركز بربرة، كما أحضر ملابس قديمة منوّعة، وفق قوله.

وكان الحاج شعبان قبل الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000 يزور قريته "سمسم" ويمضي فيها أيامًا طويلة، يروي: "كنت أقضي في بعض الأحيان مدة تصل إلى ستة أشهر متواصلات، أشتري الخضار وأتاجر بها من أجل أن أبقى في قريتي وأشمّ رائحة ترابها وأتخيّل الحياة القديمة التي كنا نعيشها أعزّاء آمنين قبل قدوم الاحتلال".

وبالرغم من مرور ثمانين عامًا من عمر الحاج شعبان إلا أنه لم يفقد الأمل بالعودة، وإن لم يكن فأولاده أو أحفاده، لذلك قرّر أنه لن يترك الخيمة "فالرسالة التي أوصلها للعالم وللمحتلّ عظيمة للغاية" يختم.