فلسطين أون لاين

مسيرة العودة وابتكار المقاومة

لا ينكر من يمعن النظر في الحالة الفلسطينية ليحكم حكمًا أكيدًا حسب ما تشاهده عينه ويسجله التاريخ أنّ المرحلة الحالية التي تمر بها القضية الفلسطينية هي الأسوأ منذ عقود، ويتأكد هذا الحكم إذا ما نظرنا إلى الوضع الفلسطيني الداخلي، أو ما يتعلق بالوضع الإقليمي المحيط عمقًا إستراتيجيًّا للقضية الفلسطينية، أو ما نراه من التواطؤ والتخاذل الدوليين تجاه الملف الفلسطيني، والاصطفاف الدولي الرسمي إلى جانب الجلاد، وترك الضحية تعاني وتتحمل نتيجة وقوعها تحت الاحتلال.


في الوضع الداخلي الفلسطيني يتفاقم وضع الحصار بصورة تزداد فيها صعوبة الحياة على المواطن الفلسطيني في قطاع غزة، فقلة وجود فرص عمل وسيولة مالية، إلى جانب الحصار الذي تفرضه مصر على الحركة التجارية وحركة مرور الأفراد من جهة، وعقوبات حكومة الحمد الله من جهة أخرى الناتجة عن استمرار الانقسام الفلسطيني، إضافة إلى الحصار الذي يفرضه كيان الاحتلال؛ كل ذلك يشكل ضغطًا متزايدًا على الساحة الفلسطينية، ما ينعكس بصورة مباشرة على حال القضية الفلسطينية برمّتها.

من ناحية أخرى وصلت المفاوضات ومسيرة التسوية بصورة عامّة إلى طريق مسدود، بعد أن ظهرت النية الحقيقية للحكومات الإسرائيلية المتعاقبة التي لا ترى مصلحة في إقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967م، بل ترى ذلك تهديدًا مفترضًا عليها، ما أهدر خمسة وعشرين عامًا من المفاوضات وجعلها تذهب أدراج الرياح، وبانت سوأة هذا الخيار الذي بني أساسًا على حسن النية والمغامرة والوعود الدولية، بدل أن يستند إلى الإمكانات التي يمتلكها الشعب الفلسطيني في حال الاعتماد عليه وتوظيف قدراته من الصمود والمقاومة.


الواقع الإقليمي بدا شاحبًا مليئًا بالتناقضات، حيث وقفت قوى الشرّ لتساند حكومات الفساد الظالمة أمام محاولات الشعوب التي بدأت تستعيد كرامتها، لتفاجأ بوقوف القوى العظمى بقضها وقضيضها مانعة إياها من تغيير الواقع الذي يعيد للشعوب كرامتها ويجعلها في المكان المناسب تجاه قضايا أمتها، خاصة القضية الفلسطينية، ولذلك كان لابدّ من إشغال هذه الشعوب في نفسها وإيجاد مشاكل تبقيها عشرات السنين في وحل لا تخرج منه، وهذا الذي يحدث في مصر وليبيا وسوريا واليمن.

جاءت مسيرة العودة في هذا الواقع الصعب في محاولة لإعادة ترتيب المشهد من جديد، وإعادة الكرة للملعب الذي انطلقت منه، فهي تقول بصوت مرتفع: إنّ جُلّ مشاكل الشعب الفلسطيني سببها الاحتلال، وإنّ المشكلة الأهم هي حرمان الشعب الفلسطيني حقوقه، وعلى رأسها أرضه التاريخية التي حرم وهُجّر منها قسرًا في مؤامرة دولية ظالمة.


جاءت هذه المسيرة السلمية إبداعًا من إبداعات شعب مقهور يرزح تحت الاحتلال والحصار، ليقول: إنّ لديه خيارات على سلميتها ستكون مذهلة في نتائجها، وإنّها ستحرج الكثيرين إضافة إلى كيان الاحتلال، وهي تقول للعالم المتواطئ المتفرج: إنّ شعبًا يرزح تحت الاحتلال منذ سبعين سنة، ومعه قرارات دولية تطالب بحقوقه، ومع ذلك لا حراك ولا تغيير على أرض الواقع، وتقول: إنّ هذه القضية التي راهن على موتها المحتل ومن يدعمه هي بعد سبعين عامًا حيّةٌ وبِنْت يومها، وإنّ شعبها متمسك بحقوقه التاريخية، وقد تجاوز في ذلك حدود الاتفاقات الموقعة التي انتقصت من حقوقه، وبدا واضحًا طريقه نحو أرضه وحريته.


لقد خلطت هذه المسيرة أوراقًا كثيرة، خاصة داخل الكيان المحتل، وبدا واضحًا أنّ صفقة القرن بوجود شعب متمترس خلف حقوقه لن يكتب لها النجاح، ولو وقف العالم كلّه إلى جانبها، وأنّ هذه الجماهير التي ترمق بعيونها اللد ويافا وحيفا وبئر السبع وضاقت بها السبل قد تصل بها الحال إلى تطوير حراكها ومسيرتها، ليكون تجاوز الحدود التي تفصلها عن مدنها وقراها هو أحد خياراتها، بغض النظر عن الثمن الذي قد تدفعه.


لقد أرسل هذا الحراك الجماهيريّ السلميّ رسائل قوية كثيرة في الداخل والخارج، كان أقوى ما سُمع منها ما فهمه كل مستوطن يعيش على أرض فلسطين، أن على أرضها شعبًا مهجرًا من موطنه هو حيٌّ بعد سبعين عامًا، لم ينس تراب أجداده، وهو الآن يحرك الدماء الراكدة في عروق الأحرار، مطالبًا بحقه السليب وتراب وطنه التاريخيّ المقدس.