فلسطين أون لاين

​يقضون نهارهم على الحدود الشرقية مع الاحتلال

مشغوفون بالأرض يلبّون نداء "العودة"

...
روحي عودة (تصوير / حنان مطير)
غزة - حنان مطير

الساعة التاسعة صباحًا، الشوارع ترابية ومن حولها الأراضي الخضراء تمتدّ على مرأى البصر، جماعاتٌ قليلة من الشباب وأخرى من النساء تسيرُ على الأقدام، فسيارات الأجرة لا تدخل المنطقة إلا بطلبٍ مخصوص.

بين الفينة والأخرى تمرّ سيارةٌ تحمل عائلةً بأكملِها، ومن ثم عربة "كارو" أو دراجة نارية، جميعهم يتّجهون نحو أقصى الشرق من بلدة بيت لاهيا، حيث تنتشر وتستعدّ الخيام في منطقة تلّة "أبو صفيّة" لاستقبال المواطنين، فاليوم هو الرابع الذي يخرج فيه الفلسطينيون إلى الحدود في مسيرة العودة الكبرى في ذكرى يوم الأرض.

كان الشباب في تلك المنطقة متناثرين فرادى وجماعات فوق "تبَّةٍ" من الرّمال وُضِعت بالأساس حاجِزًا لحماية المواطنين في الخيام من رصاص المحتلّ الذي لا يكترث بأي حدود، وآخرون اقتربوا أكثر من السّلك الحدودي قرب شارع "جَكَر" دون أن يتخطّوا المنطقة المحظور دخولها، غير مكترثين بالقناص الإسرائيلي في منطقة التّماس.

صوتُ إطلاق نار يأتي من الشّرق، يقابله صوتُ الأناشيد الوطنية الثورية تصدح عاليًا "فوق السما، تحت الأرض، بنت الشرف صاحت فينا.."، يركض الشبّاب صوب الرّصاص ويهرع المسعفون، إذ وقعت إصابتان في تلك الأثناء، فيخبرنا المسعف عبد المجيد أبو العيش أن "غالبية الإصابات غير القاتلة كانت في المناطق السفلية بطلقاتٍ نارية متفجرة بحيث تؤدي لإعاقة دائمة أو بتر".

وبالرغم من تلك الإصابات لم يكترث الطفل قصي حميد (16 عامًا) بالأمر، بل أمسك مقلاعًا وراح يلفّه بشكل متّسعٍ دائريّ في الهواء ويجرّب مدى فاعليته، يقول لـ"فلسطين": "مقلاعي بسيط وهو عبارة عن حبلٍ وجزء مقصوص من "حزام" قماشي يتسع لحجم الحجر، لكنه يصل لمسافةٍ بعيدة".

ويضيف: "وجودي وحملي للمقلاع وإلقاء الحجارة على المحتلّ هو تعبير عن رغبتي وحلمي في العودة لبلادي وبلاد آبائي وأجدادي من قبل، وإن كنت على يقين بأنها لن تصيبهم".

وكان حميد اللاجئ من قرية برير قد سار مسرعًا مدة ساعةٍ كاملةٍ من بيتِه في معسكر جباليا قرب جامع الخلفاء كي يصل إلى الحدود ويشارك في مسيرة العودة الكبرى، "فأنا لن أضيّع يومًا دون أن أتواجد مع باقي المتجمهرين من الشعب"، يتبع.

أما صديقه حسين أبو جبل (19 عامًا) فقد جاء للمشاركة أيضًا رغم أنه ليس لاجئًا من إحدى القرى الكثيرة المهجّرة على يد الاحتلال عام 1948.

يروي لـ"فلسطين": "حتى وإن كنت (مواطنًا)، إلا أنني ابن فلسطين، ولا فرق بين (مواطن) أو لاجئ، بل لا بد من أن نقف مع اللاجئين، فالعودة والتمتع بتلك البلاد المسلوبة حقّ لكل فلسطيني، والأهم من كل هذا العودة لقدسِنا العاصمة الأبديّة".

ويقول: "بالأمس كنت أنا وكل عائلتي هنا، نهتف ونكبر ونقول بعلو صوتِنا: (نموت وتحيا فلسطين)، وبالأمس أيضًا أصيبت غالية أختي".

وتبلغ غالية أبو جبل 15 عامًا، كانت تحمل علم فلسطين وتشاركهم الهتاف إلى أن أسكت صوتَها صوتُ الرصاصةِ واختراقها ساقها.

يوضح: "حملناها وذهبنا معها إلى المشفى، وظلّت أمي تدعو لها أن يكون الله بعونها وينجيها من إصابتها، لكنها لم تغادر الحدود، لقد بقيت ترفع علم فلسطين وتهتف بحماس".

أما الطفلة غالية فلم ترهبها الرصاصة، بل تنتظر الشفاء من أجل أن تعود تشارك أمها وإخوتها، وتقول: "لن يخيفني حتى أن أُصاب بساقي الأخرى، فكلنا فداء لفلسطين".. أبو جبل يوضح.

عودة و"رزقة"

بدأ الباعة بالانتشار ومنهم باعة الفلافل و"العرايس" والمشروبات الباردة، على رأسها "البرّاد، لقد جاؤوا حالمين بالعودة من جانب، آملين برزقٍ جيد من جانب آخر.

صفّ خالد زين الدين (37 عامًا) بسطته، وعليها وعاء مليء بخلطة الفلافل ومقلاة كبيرة، وبدأ يقلي، يقول لـ"فلسطين": "بربرة هي بلدتي الأصلية التي أحلم بزيارتها منذ كنت صغيرًا، واليوم أحلم بأن نستعيدها، وإنني على يقين بأننا إليها عائدون بإذن الله".

ويضيف: "جئت لأشارك الأهل والأصحاب وكل أهل بلدي في مسيرات العودة، وبنفس الوقت أحصل على رزقٍ يسير ببيع أقراص الفلافل".

وكان أبناؤه قد سبقوه لمنطقة شرق بيت لاهيا حيث الحدود وأخبروه أن المنطقة تفتقر للباعة، فقرّر أن يأتي ببسطته، وبالقرب منه اصطفّ شاب آخر يبيع المشروبات الساخنة وثالث راح يشوي "العرايس".

أما المواطن روحي عودة والبالغ 46 عامًا، من بلدة بيت حانون شمال قطاع غزّة، فقد وصل للحدود الشرقية الساعة التاسعة، وأشعل الحطب بالنيران وجهز إبريق شايٍ كبيرًا، يوضح: "جئت وأفطرت برفقة الأحبة هنا في تلك الخيمة إفطارًا بلديًا يعيدنا لأيام زمان حيث الزعتر والزيت والزيتون والشاي على النار".

ويقول: "وإن كنت (مواطنًا) غير مهجّر إلا أن وجودي في مسيرات العودة واجب، فكل المهجرين إخوتي وفلسطين هي بلادي والعودة إلى كل شبر تم احتلاله حق لا بد أن يعود، وقد جئت لأقول لكل المشاركين اللاجئين إنني معكم لآخر لحظة".

سيارةٌ خاصّة تقترب وينزل منها شابان، كانا الزّوجان ضياء وهبة المدهون، يخبرنا ضياء من مدينة المجدل المُهجّر أهلُها أنه أصيب عام 2000 وكذلك عام 1996 في أحداث النفق بسبب إلقاء الحجارة على المحتل آنذاك.

وبخصوص قدومه للمشاركة في مسيرات العودة، يروي: "لا بد أن نتواجد وإن كنا لن نفعل شيئًا غير التواجد، فالمشاركة تعني لنا الكثير، إنها ترفع فينا الروح المعنوية للرجوع إلى بلادنا التي تملّكت أرواحنا، وهذه إحدى الطرق السلمية الناجحة بإذن الله لاستعادة بلادنا وقُدسِنا".

ويعبر: "جدّتي لم تملّ من الحديث عن جمال المجدل ورقيّها وتميّزها في الصناعة، لقد كانت روحُها وتحيا على ذكراها القديمة فيها".

أما زوجتُه هبة فقد جهّزت أطفالها الثلاثة وأخرجتهم للمدرسة ثم انطلقت برفقة زوجِها لتأدية واجب المشاركة، فتلك خطوةٌ مهمة للعودة والرجوع للمجدل، كما تقول.

وتضيف: "أطفالنا باتوا يعرفون تماما حق العودة ويوم الأرض وذكرى النكبة الفلسطينية، لكنني مضطرةٌ ألا أخبرهم أنني أذهب برفقة والدهم لمسيرات العودة، فإنهم لو عرفوا بذلك لن يذهبوا للمدرسة من أجل القدوم معنا ومشاركتنا".

هناك أيضًا وقف اللاجئ شحدة أبو ناموس مشاركًا في مسيرات العودة الكبرى ليخبر "فلسطين" أن: "المشاركة أمر مهم وواجب وسيكون تأثيره ناجحًا بإذن الله، وهو خطوة فعّالة للرجوع لبلادنا المسلوبة، خاصة بعد التهميش الكبير لحق العودة في القرارات الدولية، وبعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب القدس عاصمة لـ(إسرائيل)".

فداء لفلسطين

ومنذ اليوم الأول في مسيرات العودة يشارك الشاب أحمد الحواجري (21 عامًا) اليوم بطولِه، يقول لـ"فلسطين": "أجدادنا خرجوا بالألوف من ديارهم وبلادهم مهجّرين منكوبين مظلومين على أيدي المحتلّ الإسرائيليّ، وإننا سنرجع قريبًا لتلك البلاد بالملايين"، مضيفا: "كلنا فداء لفلسطين، ولا خيار لنا غير العودة".

وكان الحاج أبو رمزي أبو شرخ (64 عامًا) والمهجّر والدُه وأجداده من مدينة المجدل قد جاء للمشاركة دون أن يفكّر بغير العودة، يروي لـ"فلسطين": "أعاني من خشونة في الركبة وآلام شديدة، لكن ذلك لم يمنعني من المشي أكثر من اثنين كيلو للوصول للحدود الشرفية في وقتٍ يصل إلى ساعة ونصف".

ويقول: "لم أرتَح أو أتوقف عن السير للحظة، فقط كنت متلهفًا لتلك الخطوة، وشعرت نفسي أني أعود لبلادي حقًا، وسأبقى مشاركًا في مسيرات العودة لآخر لحظة".

ويضيف: "في طريق قدومي، لم تفارقني حكاية والدي في سنة النكبة الفلسطينية 1948، حين لجأت عائلة من مدينة يافا لتحتمي ببيت عائلتي أبو شرخ، وهناك سقطت البراميل المتفجرة وسقط كل من كان في البيت من العائلتين شهداء ولم تبقَ سوى طفلة صغيرة واحدة، حماها الله بأن قَلَب فوقها سريرًا خشبيًا ولم تتأذَّ، فكبرت وعاشت تحلم بالعودة، لكنها توفيت منذ بضعِ سنواتٍ قبل أن يتحقّق حلمها بالعودة".