لم تكن البيوت في غزة يومًا مجرد جدران وأسقف خرسانية، بل مستودعات للحكايات، ومخازن لضحكات الأطفال، وزوايا دافئة شُيّدت بعرق السنين وأحلام أصحابها.
اليوم، وبعد أن تحولت تلك المساحات إلى تلال من الركام، لا يزال أهلها يقصدونها؛ لا بحثًا عن مقتنيات مفقودة أو أدوات مدفونة، بل استحضارًا لذاكرة تأبى الهزيمة والانكسار. فخلف كل جدار منهار، حكاية تبحث عن تفاصيل صغيرة كانت يومًا ما تصنع معنى البيت.
وبينما تقف آليات الاحتلال العسكرية حاجزًا بينه وبين حارته التي غدت أثرًا بعد عين، يعيش الحاج أحمد الشعراوي (70 عامًا) ما يسميه بـ"جغرافيا الحنين". لا يحلم بقصرٍ مشيّد، بل تختصر أمانيه في لحظة يطأ فيها تراب أرضه من جديد.
يقول الشعراوي لصحيفة "فلسطين"، بنبرة يملؤها اليقين: "حلمي أن أعود إلى بيتي المدمر، أن أرتمي فوق حجارته، وأشمّ رائحة الأرض التي تعمّدت بعرقي وعرق أجدادي".
وبالنسبة لـ"أبو حسام"، لم يعد المنزل مجرد بناء، بل انتماء لا يمحوه الغياب، لذا يخطط للعودة فور بدء تنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار
ويضيف: "سأجعل من أنقاض داري وتدًا لخيمتي، فهناك فقط أشعر أنني استعدت روحي".
الشعراوي، الذي فقد نجله محمد خلال هذه الحرب، يختتم حديثه قائلًا: "سنعود حتمًا إلى ديارنا ونستعيد أرضنا، والاحتلال إلى زوال".
وعلى رصيف آخر من النزوح، لا تقلّب هديل النمر صفحات كتبها الجامعية، بل تتصفح صورًا محفوظة في هاتفها المحمول، تستعيد من خلالها اللحظات التي كانت تفصلها عن ارتداء ثوب التخرج من كلية الهندسة في الجامعة الإسلامية.
تقول هديل (24 عامًا) لـ"فلسطين"، بمرارة: "اليوم أقف أمام شاشة هاتفي لأرى حطام المختبر الذي شهد أولى تجاربي العلمية، وأتساءل: كيف يمكن لصاروخ أن يمحو أحلامًا استغرقت سنوات لتكبر؟".
وتتابع، وهي التي اعتادت دراسة استقامة البنيان، بكلمات تفيض تحديًا: "في الهندسة نتحدث عن مقاومة المواد، واليوم أختبر هذه المقاومة في روحي قبل حجارة بيتي. بيوت غزة لم تسقط، بل ارتمت في حضن الأرض لتستريح قليلًا، ونحن من سنوقظها من جديد بالخرائط التي نحفظها في قلوبنا".
ورغم الرماد الذي يغطي ملامح جامعتها، ترفض هديل الاستسلام، وترى في ركام كليتها "مشروع تخرج" من نوع آخر، عنوانه أن مهندس غزة لا يبني بيوتًا للسكن فحسب، بل يشيد قلاعًا للعزة لا تقبل الهدم.
وفي زوايا مخيمات النزوح، تتجلى مأساة الصغار في قصة الطفل يامن الأغواني (8 سنوات)، الذي كان البيت بالنسبة له "مملكته الصغيرة"، حيث علبة ألوانه وصندوق ألعابه.
يقول يامن ببراءة: "كان عندي سيارة حمرا وسكة حديد، تركتهم في غرفتي وهربنا، حلمي أرجع بس أدور عليهم تحت الحجارة، حتى لو مكسورين".
ويضيف لـ"فلسطين"، بذكاء فطري: "ماما بتقول إن البيت راح وانهدم ومش حنعرف مكانه، بس أنا بعرفه من شجرة الزيتون اللي قدام الباب، هي لسه موجودة وأنا متأكد"، متابعًا: "كنا نلعب أمّ التخباية ونتخبّى ونقعد تحتها من الشمس".
بين حنين "أبو حسام"، وطموح هديل، وبراءة يامن، تُرسم خارطة غزة الجديدة؛ خارطة لا تعترف بالحدود التي يرسمها الركام، بل تؤمن بقوة الذاكرة.
هؤلاء هم "حراس الأطلال"، الذين يحملون مفاتيح بيوتهم في قلوبهم، وينتظرون اللحظة التي تنبت فيها الخيمة فوق الحجر، لتعلن للعالم أن غزة، وإن هُدمت جدرانها، تظل بيتًا يسكنه أبناؤه قبل أن يسكنوا فيه.

