فلسطين أون لاين

​حاضرة في المسيرات

القلب والقلم والصورة.. وقود العودة للأرض المُحتلّة

...
غزة - حنان مطير

صحفيون؛ حماسُهم ليس أقلَّ من الوقود لدفع العجلة باتجاه الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1948، فحلم العودة يراودهم ككل فلسطينيّ حُرّ.. حشدوا أنفسهم وجهّزوا أقلامهم وأصواتهم وعدساتهم وخرجوا آخذين زمام الأمور بأيديهم، مستندين إلى تجارب شعوب كثيرة خاضت هذا النوع من المقاومة السلميّة ضد الاحتلال، فساروا نحو الحدود باتجاه قُراهم وبلداتهم الفلسطينية المسلوبة ملبّين نداءها منذ سبعين عامًا أوّلًا، ثمّ توثيقًا لفعاليات يوم الأرض، وأهمها مسيرات العودة والتواجد على الحدود في كل مناطق قطاع غزّة.

فتلك الرصاصةُ التي اخترقت وخرجت من ساق الصحفي المُصوّر علي العَدوي، اللاجئ من مدينة اللد المحتلّة، أثناء تغطيته لمسيرات العودة شرق المحافظة الوسطى، لن تُغيّبه طويلًا عن عملِه والعودة للتصوير من جديد، بل إنها دافعه للبقاء واحدًا من روّاد الحقيقة كما يقول لـ"فلسطين".

سلاحي كاميرتي

ووضح العدوي: "إنّ تغطيتنا لجرائم الاحتلال وفضحها يستفزّ المحتلّ الإسرائيلي، فنالني منه طلقٌ ناريّ أسفل ركبتي، وأنا لستُ الأول ولا الأخير، كلنا مستهدفون ما دمنا أبناء الشعب الفلسطيني".

وكان لعدوي وكلّ من حوله الوفير من غاز الفلفل التي أُريد به منع الطواقم الطبية من إنقاذ المصابين رغم قدومهم في مسيرات سلمية، وفق تعبيره.

وقال: "أحب مهنتي كثيرًا، وإن كانت تضطرني للكثير من المغامرة والمخاطرة، وكاميرتي هي سلاحي، فكيف إن ارتبط حبّ المهنة بحبّ الأرض، وكيف إن كانت تلك الأرض مسلوبة؟! إنني لن أملّ من مواصلة عملي بمجرّد التعافي إن شاء الله".

ويشارك في تغطية مسيرات العودة مراسل صحيفة دنيا الوطن الإلكترونية عبدالله أبو حشيش والذي يرى أن الحدث نوعي وفريد، فـ"العودة" كانت "مجرد كلمة"، لكنها أصبحت على الأرض اليوم حقيقية مؤثرة وفعالة تسير معها الحشود الغفيرة من الشعب، وهذا دافع من داخلنا لأن نشارك في تغطية هذه الحشود، وفق ما قاله لـ"فلسطين".

وأضاف: "هذا لكي يقرأ العالم أن اللاجئين لا يمكن أن ينسوا أرضهم وديارهم التي هجروا منها عام 1948".

وأتبع: "وجدنا الكبير والصغير والشاب والمرأة، ووجدنا كل الأطياف والألوان الفلسطينية مشاركة بهذه الفعالية وهذا جانب من التشجيع للمشاركة؛ لأن الشعب متعطش للوحدة في أي قرار وأي فكرة".

وواصل: "التغطية كانت تختلف كليا عن تغطيتنا للفعاليات الأخرى، فالصغار والكبار يستذكرون في تلك المسيرات انتفاضة الحجارة والمقاومة السلمية الشعبية، وهذا ما يتمناه الجميع من أجل إعطاء إشارة للاحتلال مفادها أنه لا يمكن للاجئ أن ينسى أرضه وهذه رسالة تورث لكل الأجيال القادمة".

وأوضح أن المشاركة كانت جزء منه كلاجئ من قرية البطانة الغربي ومن حقه أن يخرج بجانب كافة المواطنين، أما تغطيته فكانت مهمة عمل، فلا بد كصاحب مهنة أن يكون موجودًا فيها لنقل مشاعر الناس الذين توافدوا للشريط الحدودي مع الاصرار على استمرارهم بالبقاء حتى تحقيق إرادتهم.

مواطنون ولاجئون

فيما لم تشعر الصحفية مها شهوان بالفرق أبدًا بينها وبين أحدٍ من الصحفيين زملائها حينما دعت مؤسستها "الرسالة للإعلام" موظفيها للمشاركة في فعاليات مسيرة العودة، فحق العودة كما تقول: "ثابت من الثوابت الوطنية لكل فلسطينيّ".

وكانت مشاركة "الرسالة" عبارة عن تغطية إعلامية لمسيرات العودة من خلال العمل الميداني تدفعهم مشاعرهم وحبهم للأرض، بعد أن نصب موظفوها خيمة العودة بأيديهم يوم الاثنين الماضي شرق غزّة قرب الحدود مع الأراضي المحتلّة، وفق ما أخبرنا محمد أبو قمر مدير تحرير الصحيفة.

وحول ذلك قال: "جئنا بأقلامِنا ودفاترنا وأجهزة اللابتوب الخاصة، ونصبنا الخيمةَ بحجم غرفة وقلوبنا تتأمّل العودة لبلادنا التي هُجّرنا منها، وكانت الأجواء تعاونية متميزة، هذا يدق بالشاكوش وذلك ينصب الأعمدة وثالث يلف الحبال وتلك تُناوِل وتساعد وتغرس علم فلسطين، ثم أفطرنا بجوار الخيمة بسعادة والتقطنا الصور".

وأوضح أبو قمر أن تلك المشاركة تأتي في إطار التغطية الإعلامية لمسيرات العودة التي تعتبر ثابتًا من الثوابت الوطنية وحق للاجئين.

حق لكلِّ فلسطيني

على أرض الخيمة عقد الموظفون اجتماع التحرير وكأنهم في مكاتبهم، وقامت بعض المؤسسات الإعلامية بزيارتهم ومشاركتهم نشاطهم مثل وكالة رويتر، كما وعقدت المؤسسة ندوةً مستضيفةً خمس شخصيات من ممثلي اللجان المسؤولين عن المسيرة والحديث لـ"أبو قمر".

وبالعودة للصحفية شهوان فروت لـ"فلسطين": "حق العودة ليس حلم كل لاجئ، بل إنني كمواطنة غزيّة غير مهجرة من بلدة ما؛ أحلم كثيرا بالتجول في القرى والمدن الفلسطينية المحتلة وكسر الحواجز التي بناها الاحتلال وحرمنا رؤية خيرات البلاد والتنعم بها وبطبيعتها الساحرة". وقالت: "إنني أحفظ أسماء القرى التي هجر منها أصدقائي ومعارفي لدرجة أنني أصبحت حينما تُذكر أسماء بعض العائلات أمامي أدرك من أي بلد أو قرية هُجرت، وما هي الطقوس التي يشتهرون بها والأكلات وبعض العادات والصفات وما إلى ذلك مما يخصّ أهالي تلك القرى".

شهوان المتزوجة من فلسطيني مُهاجِر من دون إخوتها لم تكن تتخيّل يومًا أن ترتبط بغير غزيّ الأصل، لكن النصيب وإشادة الكثيرين بزوجِها دفعتها لرفض أكثر من شخص أصوله غزيّة والقبول به شريكًا لآخر العمر.

وأوضحت: "لشدة ما كانت عائلة زوجي تتحدّث عن البلاد والهجرة شعرت بمدى الارتباط بها وصرت أكثر تعلقًا واهتمامًا من ذي قبل بتلك القرى والمدن، وأتوق لرؤيتها والعودة لها مثلهم تمامًا، ثم صرت أناقشهم بحب وسعادة في تلك الأحاديث الخاصة بالعودة، بل وصرت فيما بعد إن تعرّفت على شخص مهاجر أسأله عن بلدته الأصلية".

وتبتسم شهوان معبرة: "حين يجتمع زملائي المهجّرين ويبدؤوا بالمقارنة بين المواطن والمهاجر فإنهم يستفزونني، خاصة حين يقولون إنهم هم من علمونا الكثير من الأشياء كالطبخ مثلًا".

ختمت حديثي مع مها بابتسامةٍ وإجابة عن سؤالها: "بلدتك الأصلية كوكبة يا حنان، صحيح؟"، لتكون إجابتي: "لا.. بل بربرة، وهناك عائلات أخرى تحمل نفس عائلتي تُنسَب بقرية كوكبة".

اختلاف الخيام

أما الصحفية أمل حبيب ابنة قرية "الكوفخة" التي تقع في شمال شرق مدينة غزة، وتبعد عنها 19 كيلومتر، فكانت مشاركةً أخرى مع زملائها في الصحيفة.

روت حبيب لفلسطين: "مرّت عربة كارو بالقرب من الخيمة لأحد (الختايرة) والذي يمتلك أرضًا قرب الحدود، فقلت بصوتٍ منخفض وزملائي منشغلون بالتصوير: (يا ريتني أركب على العربة)، فسمعني صاحبها وقال لي: (تعالي يا بنتي)".

وقالت: "قلت له: (عن جد؟! تأخذني على الكوفخة) فأجابها بالإيجاب، وحينها لم تُبالِ أمل بما سيقوله عنها زملاؤها فركبت والفرحةُ تغمرها."

أضافت: "الأمر كان بالنسبة لي معنويًا، فأنا على يقين بأنه لن يأخذني اليوم للكوفخة وصاحب العربة على يقين بذلك، لكنني شعرت حقيقةً وكأنني أعود لقريتي وموطن رأس آبائي وأجدادي، شعرت بأن الحلم بات قريبا".

وأوضحت: "كان شعوري مضاعفًا كصحفية أولًا مستعدة للتغطية الإعلامية، بكل تفاصيلها التي أحبّ، إلى جانب شعوري بالعودة الحقيقية، فبتُّ أشم رائحة بلادي وأستحضر حديث والدي وقصصه التي رواها له من قبل والداه".

وبينت: "هذه الخيمة مفارقة لخيام التهجير، فخيام التهجير كانت خيام ذل وقهر بينما هذه الخيام خيام عودة وكرامة".

شعوران متناقضان

وشاركت في الخيمة الصحفية رولا أبو هاشم، وبلدتها الأصلية التي هُجِّرت منها "يبنا"، قالت لـ"فلسطين": "حين ذهبت برفقة زملائي للخيمة شعرت بشعور مختلف وجميل جدًا؛ لأننا كنا قريبين من الحدود، وجلسنا وسط الأراضي الزراعية الواسعة والعامرة بالعشب الأخضر والمنعِشة بهوائها النقي".

وأضافت: "كان الشعور مزيجًا بين السعادة والحسرة، السعادة لأننا كنا عند أقرب نقطة حدودية توصلنا لأراضينا المحتلة، والحسرة لأنه لا يمكننا أن نصل لتلك الأماكن المغروسة في قلوبنا وعقولنا، نظرًا لطبيعة المنطقة والخطورة الأمنية هناك".

وأوضحت أبو هاشم: "لقد زاد فيّ الشوق والرغبة أكثر للوصول لبلداتنا اللي هُجّر منها أجدادنا، وتحمستُ مع زملائي أكثر على المشاركة في مسيرة العودة لنؤكد على حقنا وحق أبنائنا في العودة إلى بلداتنا الأصلية المحتلّة".

وبينت: "الخيمة رجعتنا لذكريات التغريبة الفلسطينية اللي عاشها أجدادنا، وكيف كانت حياتهم بعد الهجرة، لكن شعورنا كان مختلفًا إذ هذه المرة نصبنا الخيمة لنتحدى الاحتلال ونؤكد عزيمتنا باسترداد حقوقنا الشرعية، وأبرزها حق العودة".

أما الصحفي أسعد البيروتي، اللاجئ من مدينة يافا المحتلة، فرأى أن تلك الأوقات التي يقضيها على الحدود في تغطية فعاليات العودة لحظات حازمة وفارقة وحاسمة، وفق قوله.

وأوضح: "ربما تلك المصطلحات كلها مجتمعة مع بعضها، في لحظة واحدة أن تكون مغطيًا للأحداث في ميدان تكاد إن رفعت عدسة كاميرتك قليلًا إلي الاعلى ألا ترجع تخفضها بعد ذلك، ولربما تقترب من الشبان المنتفضين بشكل سلمي لأجل القدس وتأكيدًا على حق العودة فتلقى حتفك بين لحظة وأخرى".

وأكّد: "لقد خرجنا لنقول إن العودة كالشمس لا بد أن تشرق يومًا من دماء الشهداء وتزهر الحرية في ربيع فلسطيني قادم".