بعد سبعين عامًا من الانتظار قرر الشعب الفلسطيني -في الوطن والشتات- أخذ زمام المبادرة بيده، متمثلًا بالقول العربي المشهور "ما حكّ جلدَك مثلُ ظفرِك"، ومستندًا إلى تجارب شعوب كثيرة خاضت مثل هذا النوع من النضال السلمي ضد الظلم والعدُوان، ومنطلقًا من بعض الحقائق.
أولى هذه الحقائق؛ مضيّ عقود من الانتظار في المنافي والشتات ذاق فيها كل أنواع الألم والمعاناة والحرمان، على أمل أن يتمكن من العودة إلى قراه ومدنه التي طرد منها بالقوة، ولم يتمكن لاجئ واحد من تحقيق ذلك الحلم، بل الحق الطبيعي.
فكم خاضت الأنظمة العربية الرسمية من الحروب بهدف اقتلاع (إسرائيل)، وتحرير فلسطين، وإرجاع اللاجئين إلى ديارهم؛ بل إنها كلها فشلت في تحقيق أي هدف منها، والأدهى والأمر أننا كفلسطينيين كنا ندفع -في كل مرة- أثمانا باهظة لتسديد فاتورة الفشل الرسمي العربي.
فكانت النكبة والنكسة وكان اللجوء والنزوح والرحيل والشتات، وما زال الأمر مستمرا حتى الأمس القريب، عندما دفع الفلسطينيون أثمانًا عالية من الأرواح والممتلكات، نتيجة الصراع في المنطقة بين الثورات والثورات المضادة.
وثانيتها تتعلق بالقانون الدولي؛ فرغم كل ما يعتري المجتمع الدولي من الانحياز -وخاصة في حالة "إسرائيل"- فإنّ القرارات الدولية سواء الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة أو مجلس الأمن؛ جاءت لتؤكد في مناسبات عديدة حقَّ الفلسطينيين الثابت في عودتهم إلى أراضيهم وديارهم التي هجروا منها.
ولعل أشهر هذه الوثائق هو القرار الأممي رقم ١٩٤ والصادر في ديسمبر/كانون الأول من عام ١٩٤٨، أي بعد النكبة بشهور فقط. ومؤخرًا أكد هذا الحق مدير عمليات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" في غزة ماتياس شمالي، وذلك في رسالة موجهة إلى اللجنة الوطنية لمسيرة العودة، ردًّا على رسالة وجهتها الأخيرة إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش طلبًا للدعم الدولي.
فقد قال شمالي في رسالته إن "فكرة المسيرة الكبرى من الممكن أن تتحول إلى مبادرة قوية إذا تم تبينها بصدق"، وأضاف أن "وكالة الأمم المتحدة تدعم حق الفلسطينيين في التجمع والاحتجاج السلمي"، ولمَ لا فهي من أهم الشواهد الباقية على قضية اللاجئين.
أما حقيقة وواقع الإجماع الوطني -بما فيه أصحاب المشروع أنفسهم- فقد اعترفوا بأن مشروع التسوية السلمية عبر المفاوضات فشل فشلًا ذريعًا في تحقيق أي من أهداف شعبنا، ولو بالحد الأدنى.
وهذا الإجماع يتزامن مع إدراك الغالبية أن المقاومة المسلحة -في ظل الأجواء المعقدة وطنيا وإقليميا، والانشغال الدولي بإعادة رسم النظام العالمي- ستكون تكلفتها باهظة جدًا، وقد لا تحقق أهدافها الآنية.
طبعًا هذا الإدراك يأتي على قاعدة أنّ المقاومة بكل أشكالها حق مشروع لشعبنا، وشعبنا فقط هو من يقرر اختيار شكل المقاومة الصالح لهذه اللحظة أو تلك، فهو الانتقال من مربع إلى مربع آخر فقط.
كما تزامن ذلك مع إدراك الغالبية من أبناء شعبنا -ومعهم الكثير من الحلفاء والأصدقاء- أنّ عدونا يمتلك الكثير من عناصر القوة ليمارس ظلمه وقهره على شعبنا، ولكنه في نفس الوقت يعاني من نقاط ضعف كثيرة، ولعل من أبرزها الصورة التي سوّقها لنفسه بوصفه "الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، والتي تدافع عن حقوق الإنسان وتُعنى بحرية التعبير".
ولذا جاء قرار الشعب هذه المرة بأن يضع المجتمع الدولي -بكل مكوناته- أمام مرآة الحقيقة، وأن يواجه هذا الكيان العنصري بصدوره العارية ويديه الفارغتين في مسيرات سلمية بالمطلق، وهذا ما أكدته كل أدبيات "مسيرة العودة الكبرى" الخاصة والعامة.
فشعبنا يعلم مسبقًا ويقينًا أن (إسرائيل) ستفشل في اختبار الحقيقة، ولن تصمد كل مساحيقها التجميلية أمام حرارة إيمان شعبٍ بحقه الأصيل في العودة إلى وطنٍ حُرّ، ولعل القيادة الإسرائيلية لم تتمكن من إخفاء مظاهر القلق الصهيوني من هذا النشاط الشعبي السلمي، وذلك منذ اليوم الأول للإعلان عنه؛ حيث كثفت القيادة الأمنية الإسرائيلية أنشطتها في المناطق الحدودية لدراسة السيناريوهات المتوقعة.
كما أن المتابع للأمر يلحظ وجود اتصالات دولية مكثفة مع القيادات في غزة، للاستفسار عن طبيعة هذا النشاط والضمانات الكفيلة بسلميته، و"التحذير" من أي تطورات قد تحرف الأمور عن المسار المرسوم لها، بل إن الأمر تطور إلى استعمال البعض لغة "التهديد المبطَّن بحرمان غزة من أي فرص لتخفيف الحصار مستقبلًا".
وقد بدت مظاهر القلق بشكل أوضح في حجم العمل الاستخباري من طرف العدو لإحباط هذا الحراك، حيث اعترف مؤخرا أحد العملاء يعمل سائق تاكسي بأنه مكلف بنشر الشائعات بين الناس لتخذيلهم عن المشاركة، كما قام ضباط أمن إسرائيليون بالاتصال مع شركات النقل وتهديدهم وأسرهم بالويل والثبور وعظائم الأمور إن هم شاركوا في نقل المتظاهرين.
ورغم كل محاولات الاحتلال لإفشال هذه المسيرات فإنها جاءت حراكا وطنيا بامتياز، يشارك فيه الجميع: فصائل وقوى، ومؤسسات رسمية وأهلية، وشباب وشيوخ، ورجال ونساء وأطفال، في الوطن والشتات.
وهذه المرة لن يُرفع إلاّ العلم الفلسطيني، إضافة إلى إصرار كل المشاركين على سلمية المسيرات. وهنا يأتي التركيز الأكبر على ساحة غزة لأسباب كثيرة، لها علاقة بالجغرافيا والمعادلة السياسية الداخلية، وإمكانيات العمل على الحدود في الإقليم، وقبل ذلك كله موقف الاحتلال وإمكانيات انفجار الهدوء الحذر في غزة.
فرغم أننا -نحن الفلسطينيين- أمام خطوة إستراتيجية في إدارة الصراع مع الاحتلال، يسعى الجميع لإنجاحها وتحقيق أهدافها؛ فإن هذا النجاح -من وجهة نظري- يحتاج إلى مقومات يتوافق عليها الجميع، ليس أقلها: وطنية الحراك وتجنب أي مظاهر حزبية، إلى جانب الاستمرارية والاستدامة.
والأهم هو سلمية الحراك، فأي عنف -مقصود أو غير مقصود- سيكون هدية من السماء للاحتلال، ليبرر عدوانه وإجهاض هذه الخطوة التاريخية التي يمكن أن تحشره في الزاوية على المستوى الدولي.
فياله من مشهد تاريخي يبعث في النفس نشوة وطنية؛ أن نشاهد الجموع تتحرك (شيبا وشبانًا.. رجالًا ونساء) نحو السلك الزائل، ليعيد الفلسطينيون صياغة القصة التي سُطّرت قبل آلاف السنين، ولينتصر داود الفلسطيني على جالوت الإسرائيلي ويهزم الكفُّ المِخرزَ.