فلسطين أون لاين

​آمنوا أن الاحتلال والحصار لا يقيدان الفِكر

فلسطينيون شباب جواز سفرهم للعالم "كتاب"

...
غزة - حنان مطير

كما لو أنها سمكة رشيقة تغوص في بحر من الكلماتِ العذبة، وتنتقل بين طبقاتِه بِحُريّة وخِفّة، لتصل إلى عوالم مختلفة متخطّيةً كل حاجز وحصار.. تلك مشاعر الغزية هند جودة حين تمسك كتاباً وتبدأ بقراءته، فلطالما أثارت مكتبةُ بيتِها الهائلة فضولَها لتنجذب إليها، وكأن سحراً يشدّها ولا يترك لها لحظة خلاص.

هند، واحدة من الغزيين الذين يعيشون على الكتب، وغيرها الكثيرون لا يشعرون بطعم الحياة، إن لم ينهلوا من حروفها ومعرفتها، فحتى وإن تمكّنت فلسطين المحتلّة وغزتها السجينة من تكبيل أجسادهم واحتجازها لم تملك أن تحتجز فِكرهم أو عقولهم.

"فلسطين" التقت بهم وتحدثت إليهم حول نهمهم للكتب وشوقهم إن غابوا عنها وتلك حكاياتهم:

وبالعودة إلى هند فقد بدأت القراءة منذ سن صغيرة، كنتيجةٍ طبيعيةٍ لاهتمام والديها وتعويدها عليها والاهتمام بالكتب، لكن الكتب الأولى التي أسرتها تماما كانت هدية من ابن عم لها.

تحكي هند لـ"فلسطين": كان ابن عمي يعشق الكتب، وكانت عبارة عن مجموعة روايات مصرية للجيب، والتي كانت شائعة جدا وواسعة الانتشار آنذاك، سحرني ذلك العالم".

هند التي تجد الكتاب أنيسها في كل وقت فراغ حتى في سيارة الأجرة، ترى أن القراءة جعلتها أكثر اتساعا وتفهما ونضجا، موضحةً أن اكتشاف حيوات وانكشاف تجارب أخرى أمام القارئ يجعل الأحداث والتناقضات التي تدور حوله قابلة للتحليل والتفهم.

وتقول هند التي تكتب اليوم القصة والشعر الجميل: "القراءة تجعل صاحبها يتجاوز الحصار المفروض على غزّة كونها رحلات خارج الزمان والمكان وكونها تجلب الجغرافيا المختلفة حيث يكون، لذلك فالقراءة فعل مقاومة حضاري لا يضاهى وفعل تأكيد على الحق في المعرفة والحلم والحياة".

وسيلة ترفيه

أما الشاب محمد أبو لبدة (٢٢ عامًا) فكاتبٌ للشعر غزّي، ما جعله يميل لقراءة كتب الأدب والشعر، دخل عالم القراءة منذ صغر سنه، فعشقه، إذ ترعرع في أسرة مُحبةٍ للقراءة والكتب، حتى بات يقرأ ما يقارب 80 كتاباً سنويا، وقد يزيد.

ابتدأ بقصص الأطفال ثم تدرج للروايات البسيطة حتى وصل لقراءة كتب علم النفس والفلسفة والعلوم المختلفة، يقول لـ"فلسطين": "القراءة بالنسبة لي وسيلة ترفيه لا تضاهيها وسيلة، فأنا أستغل معظم أوقات فراغي في ممارستها".

ويضيف: "الدماغ هو أفضل سينما في العالم، ووحده الكتاب الجيّد ما يستطيع تشغيلها بشكل ممتار، كذلك فإن ما يحببني في القراءة هي أنّها تعد وسيلة جيدة لتخفيف الضغط والتوتر، كما أنّ لها القدرة على إلغاء الملل في أوقات الفراغ بطريقة تنعم علي بالفائدة".

ويرى محمد الذي يحب القراءة الورقية وليس الإلكترونية أن القراءة أهدته عيناً ثالثة، معبراً: "لقد مكنتني من النظر الى الأشياء من حولي بصيغة أخرى واضحة، عوّدتني على الصبر والتأنّي وخلّصتني من التهوّر كما عوّدتني على اختصار الأحاديث بكلماتٍ قليلة لكنّها توصل المعنى كاملًا".

ويوضح محمد أن لغزّة دور كبيرة ومهم في رحلته مع الكتب، حيثُ أن حصارها منعه من السفر واكتشاف العالم، فجاءت القراءة واستطاع من خلالها السفر حول العالم وهو جالسٌ على مكتبٍ في غرفته الخاصة.

وقت للهروب

فيما ابن رام الله الشاب أحمد جابر (26 عاماً)فيرى في القراءة رغبة في الهروب من الحياة، أو التعرف على عوالم جديدة.

يقول أحمد الذي تكثر قراءته أثناء التنقل في المواصلات لـ"فلسطين": "أملك كتباً إلكترونية على هاتفي المحمول، على جهازي الخاص، على جهاز العمل، في حقيبتي كتب ورقية، أينما ذهبت هناك ما أقرأه".

ويضيف: "كثرة القراءة تجعلني أنتظر أي لحظة فراغ لأقرأ، وبسببها تعرفت على كثير من الكتّاب، وكثير من القصص، وكثير من العوالم التي لا نراها".

ويكتب أحمد قصصاً قصيرة، إذ له كتابان منشوران، باسم "رحلة العشرين عاماً" ، و" كأن شيئاً كان"، ومؤخراً حقق الفوز بجائزة القطان للكاتب الشاب عن فئة القصص القصيرة.

هرباً من هموم غزّة

أما القراءة بالنسبة لابتسام الحمضيات (27 عاماً) فهي عالمها الذي تهرب إليه، وهي غذاء روحِها التي تملؤها بالتفاؤل والأمل، تقول لـ"فلسطين": "الكتب وحروفها هي الهواء الذي أتنفسه، لقد وجدتُ نفسي منذ فترة ليست طويلة، وجدتها فقط حين بدأت ألجأ للكتاب وأغوص بين أوراقِه".

فابتسام لم تكن منذ طفولتِها قارئةً ممتازة، لكنها اتّجهت للقراءة بعد التخرّج، فخلال الأشهر الماضية القليلة قرأت 80 كتاباً في مجالاتٍ متنوّعة وما زالت مستمرة، تضيف: "أنهيت دراسة اللغة العربية وتخرّجت من الجامعة، وكغالبية الخريجين أصبحتُ أملك وقت فراغٍ كبير، بسبب تفشّي البطالة وعدم توفر فرص العمل، لقد بدأت أشعر أكثر بعمق الأسى الذي خلّفه حصار غزّة في مجتمع غزّة، وحينها قرّرتُ أن أصنع شيئاً جديداً في حياتي، يُخرِجني من تلك الهموم التي تلاحق كل أسرةٍ فينا فكان لجوئي لقراءة الكتب هو أجمل جديد فعلتُه فيها وأكبر مخرجٍ من مستنقع آلام غزّة".

وتتبع: "لا يمكنني وصف الشعور الذي يعتريني حين أمسك كتاباً وأبدأ في القراءة، ولو حاولتُ الوصف فسأقول أنني حين أمسك كتاباً أشعر بأنني كائنٌ فوق سطح القمر بلا قيودٍ أو حدود، أو أنني طائرٌ حرٌّ لتوّه بعد أن كان مسجوناً في قفص".

أفضل الأوقات التي تحب أن تقرأ فيها ابتسام هو منتصف الليل حتى الفجر، حيث يهدأ البشر ويسكن الليل، لقد صارت أكثر وعياً وصمتاً وتخطيطاً لوقتها وعملها وحياتِها، كما تقول.

النص ميت بلا قراءة

الشاب دنيس أبو النصر (21 عاماً) من سكان رفح جنوب قطاع غزة قرأ في العام الماضي أكثر من 80 كتاباً، ويعود الفضل في تعلقه بالقراءة إلى "الرهان"، تلك القصة القصيرة للكاتب الروسي "آنطون تشيخوف"، وقد كانت مقررة في كتاب اللغة الإنجليزية في الثانوية العامة. وفق قوله لـ"فلسطين".

يروي: "تناول المدرس تلك القصة بأسلوب أقل ما يوصف بأنه رائع، ثم بعد الثانوية، أخذت في الدخول إلى عالم القراءة في مكتبة الجامعة وساعدتني مواقع التواصل الاجتماعي ونوادي القراءة".

في حين أن الكتب نفسها كانت وما زالت تدعوه لقراءة غيرها، قائمة المراجع، والاقتباسات، كل شيء يناديه: اقرأ .ويقول دنيس: "كل مكتوب يشعر بالوحدة ما لم يُقرأ، كل نص ميت بدون قراءة، وكل مؤلف كذلك، إن العالم بأسره هو في النهاية موضوع قراءة، دعوة للتأمل".

حياة بديلة

ويضيف: "القراءة هي الفأس الذي يكسر البحر المتجمد بداخلنا" كما يقول كافكا، و"أكبر برهان بأن البشر قادرين على صنع السحر" كما يصفها كارل ساجان، للقراءة متعة، لذة ونشوة، اللذة في حالة الفرح والنشوة في حالة الفرح، إنها حياة بديلة، لا تراتبية فيها للزمن، الماضي موجود فيها والموتى كذلك، بل هي الوسيلة الوحيدة للتواصل معهم وليس فقط رؤيتهم".

ويري دنيس أن القراءة لا نهاية لها، معبراً بالقول: "إنها استكشاف متواصل ورحلة مليئة بالخوف والمجهول والجميل، إنها تجاوز للحدود وفعل تحرر".

ويضيف:" الكتاب وطني الوحيد".

التعرض للاضطهاد كان سبباً ملحاً يدفع دنيس لمزيد من القراءة، يوضح متسائلاً: "ماذا يعني أن تكون مضطهداً، غير معترف بك، ومهددًا بالقتل دائماً، وأن تكون مستعمَرًا، إن هذا يعني أن علي مسؤولية أخلاقية، هل سوف أمارس العنف، أو اللاعنف، وما يعنيه كل خيار؟ ربما هذا دفعني لقراءة كتب في الفلسفة الأخلاقية، أن أقرأ ليفيناس وهيغل وجاك دريدا وجوديث بتلر ولابلانش وهيدجر".

فالفلسطيني إن لم يملك جواز سفر ليدور العالم، أو حوصر في قطاع غزة فإن أحداً لن يفلح في حصار عقله وفكره، إنه يترك لكتابه العنان يحلق به لكل العوالم.