فلسطين أون لاين

​حوار مع "أيمن جبارات" بعد أيامٍ من الحرية

الاعتقال الإداري.. سفرٌ إجباري مفتوح الأجل

...
الخليل / غزة - رنا الشرافي

تسعة أشهر بدت وكأنها تسع سنوات، تلك التي أمضاها الأسير المحرر أيمن جبارات قيد الاعتقال الإداري الجديد، الذي خطفه من عروسه وأهله قبل عيد الفطر بعشرة أيام فقط، ليجد نفسه داخل أقبية الزنازين بين الأسرى بلا تهمة!

هكذا هو الاعتقال الإداري، الذي ابتدعته قوانين الطوارئ البريطانية واستغله الاحتلال الإسرائيلي لاضطهاد الفلسطينيين أكثر فأكثر.. فهو اعتقال دون تهمة، يستمر لشهور، وقد يصل الأمر بصاحبه للمكوث داخل السجن بلا تهمة لسنوات!

بلا تهمة

هنا تكمن المصيبة.. فالمعتقل العادي يعرف على الأقل تهمته وسنوات محكوميته ومتى سيرى النور، أما المعتقل الإداري فلا يعلم أيًا من ذلك وهو حال يتقاسمه المعتقلون الإداريون مع أهالي الضفة الغربية الذين يخرجون من منازلهم صباحًا لا يعلمون هل يبيتون فيها الليلة أم في المعتقلات، وكذلك ليلهم لا يعرفون إن كان سينتهي بشروق الشمس وهم في بيوتهم أم في أقبية الزنازين.

"أيمن جبارات" هو واحد من بين 500 أسير، حسب إحصائية نادي الأسير عام 2017، معتقلون إداريًا داخل سجون الاحتلال، وهم في الحقيقة أسرى لزمن يمضي سريعًا بالعمر دون أي سلطة للأسير عليه أو قدرة على إيقافه أو حتى السير معه.

خرج أيمن من الاعتقال الإداري الأخير بعد مضي تسعة أشهر، ولم يكن خروجه عاديًا بل كان نتاج صفقة بين محاميته والمخابرات الإسرائيلية التي قررت أن تفرج عنه بهذا الموعد عوضًا عن أن يقوم الأخير برفع قضية ضدهم في "المحكمة العليا الإسرائيلية"، والتي يؤمن جميع الأسرى الفلسطينيون بأنها محاكم صورية، وهو ما دفع غالبيتهم العظمى إلى مقاطعتها، وإيفاد رسالة للعالم بواسطة "أيمن".

رحلة قهر

توسط أيمن (28 عامًا) إخوته وكان الأقرب لأبيه السبعيني، وسنده في الدنيا، وكان اعتماد والده عليه كبيرًا، ولذا كان اعتقال هذا الابن للمرة الأولى، بمثابة قطع يدي الأب، حينها صدر بحقه حكم بالاعتقال لمدة 15 شهرًا، تم تجديدها "إداريًا" لستة أشهر أخرى قبل أن يرى النور ثانية.

عاد أيمن لأبيه ولسداد بعض الديون التي تراكمت على عائلته في فترة اعتقاله، وبعد فترة وجيزة التقى بنصفه الثاني، فتزوج وسار في درب الحياة لتكوين أسرته الخاصة، وبعد شهرين فقط، وقبل أن يكتمل الحُلم، غادر أيمن بيته إلى السجن مجددا.

وافق ذلك اليوم العشرين من رمضان الماضي، عندما توجه أيمن، ابن الخليل الذي يعمل في شركة للتنظيف، إلى معاينة ورشة قبل التعاقد مع صاحبها على تنظيفها، واعدًا زوجته بالعودة قبل أذان المغرب حتى يتناولا الفطور معًا، لكنه أفطر بعد منتصف تلك الليلة في سجون الاحتلال الإسرائيلي.

في ذلك اليوم، توقفت السيارة التي تقل أيمن عند "حاجز طيار" زرعه الاحتلال في طريقه.

"طلعوا هوياتكم".. قالها الجندي الإسرائيلي الذي كان يقلب وجوه من في السيارة كالذئب الذي يبحث عن فريسته.. قرأ الأسماء وأعاد بطاقات الهوية لأصحابها إلا واحدة.. بطاقة أيمن، احتفظ بها وقال له: "أنت.. تعالَ معنا".

قيدوا يديه وقدميه، ونقلوه إلى مركز توقيف "عتصيون" التابع لتجمع مستوطنات إسرائيلية تجثم على جبل الخليل، وهناك ما إن رآه الضباط قال: "أنا بدي إياك من زمان بس عشان رمضان أخرت اعتقالك.. حرام!".

اقتاد الجنود الإسرائيليون "أيمن" إلى غرفة التفتيش العاري التي يجردون فيها الأسير من جميع ملابسه، في مشهد ذلٍ ومهانة ينتهك آدمية الأسير وحقوقه كإنسان، ثم نقلوه إلى زنزانة نتنة كباقي الزنازين، مكث فيها يومين قبل أن يتم نقله برفقة الأسير المحرر جهاد أبو ماريا، من بيت أمر، والذي اعتقله الاحتلال ثانية هو الآخر.

في البوسطة

انتقل أيمن إلى سجن "عوفر" مع زميله جهاد، عبر "البوسطة"، وهي سيارة مصنوعة من المعدن "حديد" بكل ما فيها، يتم إجبار الأسير الفلسطيني على الجلوس على كراسيها المعدنية وهو مقيد اليدين والقدمين ليتم نقله إلى وجهة أخرى، مع الأخذ في عين الاعتبار القيادة المتهورة فوق المطبات والتي تكفل تعذيب الأسير وإيصاله إلى وجهته مثخنًا بالكدمات.. فهو الاحتلال.

ورغم عذاباتها لم تكن رحلة أيمن في البوسطة عادية، فقد حصل له أمر غير عادي، إذ ألقى أحد جنود الاحتلال شفرة أسفل الكرسي الذي يجلسان عليه وشرع بالصراخ عليهما وإيكال الاتهامات لهما بأنهما ينويان تنفيذ طعن، ويبدو أن ذلك كان محاولة لإيجاد تهمة لأسيرين يمكثان في السجن بلا تهمة.

وبعد أن أنهى جلبته –يروي جبارات- همّ بالتقاط الصور التي توثق وجود الشفرة أسفل كرسينا ونحن لا نزال مقيدين في اليدين والقدمين، وبعدها فصل جنود الاحتلال الأسيرين، واستفردا بكل منهما على حدة، ونصحاه بأن يشي بزميله، ولأنهما كانا أسيرين سابقين فهما يعلمان جيدًا مآرب الاحتلال وأساليبه، لذا رفضا أن يشي كل منهما بالآخر رغم عدم علمه بما يحصل مع زميله، قبل أن يعودا إلى البوسطة ويصلا "عوفر"، لتبدأ معهما قصة جديدة.

هناك التقى أيمن بمحاميته، وأخبرها بما حصل فطمأنته بأنه طالما تعرض لتفتيش عارٍ في مركز "عتصيون" فلا خوف عليه من فبركة الاحتلال لتك القصة، والتي كانت باكورة قصص أخرى.

عايش أيمن قصة أخرى في سجن عوفر المقام على أراضي بلدة بيتونيا وأراضي قرية رافات الفلسطينيتين غرب مدينة رام الله، والذي أُنشئ في فترة الانتداب البريطاني، ويطلق عليه الأسرى اسم "جوانتانامو".

يعلم الأسرى الفلسطينيون أنه يوجد في سجن عوفر "قسم 14"، يبقى فيه الأسير مع زملائه لفترة من الزمن قبل نقله إلى سجن آخر، لكن ما لا يعلمونه أنه يوجد قسمان يحملان الاسم ذاته وهو "قسم 14 الأول"، ويوجد به أسرى فلسطينيون، والثاني "للعصافير"، وهو أحد الأساليب التي ينتهجها الاحتلال الإسرائيلي لانتزاع اعترافات من الأسرى الفلسطينيين عبر عملاء له يزعمون أنهم أسرى.

قسم العصافير

عمّا جرى في تلك الليلة، يقول جبارات في حديثه لـ"فلسطين": "كان من نصيبي أنني ذهبت إلى قسم 14 الحقيقي، الذي وصلته في منتصف الليل، وهناك استقبلني الأسرى أنا وزميلي، وأعدوا لنا وجبة إفطار بعد صيام طويل ومعاناة قاسية في (البوسطة)".

ويضيف عن حياة المعتقل: "نحن أسرة واحدة، نتنظر بعضنا وما سيؤول إليه مصير كل واحد منا، نحن الأسرى الإداريين الذين نتعرض لثلاثة أنواع من المحاكمات، محاكمة تثبيت أو محاكمة استئناف أو محاكمة عند المحكمة العليا، وكل منا ونصيبه".

"طعامٌ لا يصلح لآدميين، كنا نتناول الطعام على حسابنا، نتسحر قبل أذان الفجر بعشر دقائق، ونتناول طعام الإفطار بعد أذان المغرب بساعة ونصف".

ويشير جبارات إلى نتانة الزنازين وعدم تلقيه الزيارات إلا ما ندر وانعكاس اعتقاله على أهله وعروسه، الذين كانوا متخوفين من تمديد اعتقاله قبل أن يأتيه الخبر اليقين عشية الإفراج عنه: "أيمن جبارات بكرة إفراج".

نال جبارات حريته قبل أيام، وتحديدا في الثاني عشر من مارس الجاري، عن رحلة عودته يقول: "خرجنا من القسم في التاسعة والنصف صباحًا، وبعد انتهاء إجراءات الإفراج بقيت حبيس الزنزانة حتى 12 ظهرًا، قبل أن يضعني الجنود في البوسطة التي جابت عدة سجون قبل أن تصل خط النهاية عند محسوم الظاهرية في رحلة عذاب انتهت أخيرا، ولكنها قد تتكرر في أي لحظة".