دخل ابن السماك على هارون الرشيد الخليفة العباسي يوما فاستسقى الخليفة, فأتى بكأس بها ماء فلما أخذها, قال ابن السماك على رسلك يا أمير المؤمنين, لو منعت هذه الشربة بكم كنت تشتريها؟ قال : بنصف ملكي,
قال : اشرب هنأك الله تعالى يا أمير المؤمنين, فلما شربها, قال: أسألك بالله لو منعت خروجها من بدنك بماذا تشتري خروجها؟ قال: بجميع ملكي, قال ابن السماك لا خير في ملك لا يساوي شربة ماء, فبكى هارون الرشيد.
كثير أولئك غير الراضين عن أحوالهم , ولا عن أنفسهم , ولا عن شيء قد حققوه في حياتهم, وغير مقدرين ما لديهم من نعم , فهم دوما آسفين على ما فاتهم, إذ أخفقوا في جمع المال والوصول إلى الجاه , وإن جمعوا المال وأصابوا الجاه فهم ساخطون على طريقة الوصول لكليهما.
وكثير أولئك غير الراضين عن أرزاقهم وأزواجهم و أولادهم وقد ينمو سخطهم على أنفسهم لو لم يتجل لهم ما يريدون، وبين مشاعر السخط والأسف لا يعرف هؤلاء للرضا طعما ولا يتذوقون له لذة.
يجلب الرضا بالحال لصاحبه طمأنينة النفس, وهدوء البال, وينثر السرور في طرقات حياته, فرحا بالقليل الذي لديه وتقديرا للكثير الذي يملكه ويفتقر إليه غيره من عافية في البدن ورجاحة في العقل واستقامة في السلوك.
أما السخط فلا يزيد الإنسان إلا اضطرابا وتمردا وحسدا وكآبة مهما تعددت عنده الخيرات فهو دائم التطلع للمزيد, بل ويشعر أنه لا يملك إلا القليل.
والشعور بالرضا على الحال ممكن ومقدور عليه هو فقط تدريب للنفس لإحصاء ما لديها من نعم.
وأنت تحصي ما لا تملك من متاع الدنيا تذكر أن جسدك المعافى الذي لا تقدر نعمة امتلاكه يساوي 45مليون دولار أمريكي حسب تسعيرة السوق السوداء لتجارة الأعضاء, فكم أنت غني بجسدك وحده بينما يفتقر آخرون لما لديك من عافية.
إن التطلع لما عند الغير من ابتلاءات وهموم وكروب, وليس التطلع لما لديهم من نعم ظاهرة , يعتبر تدريب للنفس على تقدير ما لديها, ومجلبة للراحة والرضى, والمتطلع لما يمتلك غيره من نعم, لا يبصر ما خلفها من هموم وأحزان وأسقام, ولا يعرف النقص يغلف تلك النعم الظاهرة.
من أهم طرق الرضا إدراك النعم الحقيقية وتقديرها, فكم نخطئ حين نظن أن المال والجاه أكبر النعم فكم من غني غير معافى في بدنه ولا آمن في دربه, وكم من فقير لا يقدر ما لديه من نعمة السكينة والعافية.
قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه في نهج البلاغة إني ذقت الطيبات كلها فلم أجد أطيب من العافية.
من منا يصدق أن الأمان والعافية وامتلاك قوت اليوم لا امتلاك كنوز قارون يعادل حيازة الدنيا بأسرها؟
فقد أخرج الترمذي في سننه عن سلمة بن عبيد الله بن محصن الخطمي، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا.
الحكيم هو من يترك ما لدى غيره ويركز على ما لديه من نعم, يحصيها ويقدرها ويحافظ عليها, يعتني بجسده فلا يضره ولا يتلفه, ويحافظ على علاقاته الطيبة بمن حوله من أهل وأصدقاء فهم من أكبر النعم, يهتم بزوجته التي وصفها النبي الكريم بأنها خير متاع الدنيا ويرعى أبناءه باعتبارهم ثروته الحقيقية, ويخلص في عمله, وعليه أن يتذكر دائما أن كل النعم التي عنده من عند الله عز وجل, فإن تجددت فهي نعمة أخرى ينبغي الشكر عليها, وإن زالت فهذا شأن الدنيا ونعيمها, فكلها أمانة عند الإنسان لا بد أن يفارقها يوما تأخر أو تقدم. وعليه أن يعلم أن شكر النعم نعمة تحتاج الشكر.