قد يكون القرار الأميركي بالامتناع عن استخدام حق النقض (فيتو) لإفشال مشروع القرار الدولي (2334) جديدًا على صعيد العلاقة التاريخية والإستراتيجية بين الشريكين الولايات المتحدة وكيان الاحتلال الإسرائيلي، لكنه لم يكن مفاجئًا لحكومة نتنياهو، فسبق الموقف الغاضب الذي أعرب عنه رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو عند صدوره إبداؤه في مناسبات مختلفة على مدار الأشهر الثلاثة الماضية مخاوفه من إقدام الرئيس الأميركي باراك أوباما على إطلاق تحرك أو تمرير مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي ضد كيان الاحتلال والاستيطان، وحاول استباق هذا الأمر بتوجيه رسائل مختلفة وممارسة ضغوط على إدارة أوباما.
تمرير مشروع القرار بعدما أصرت عليه الدول المشاركة في الاقتراح المصري كان ضربة للدبلوماسية الإسرائيلية، وبشكل أكثر دقة لسياسة نتنياهو، حتى على مستوى اكتفائه بإقناع مصر بسحب اقتراحها، من دون أن يأخذ في الحسبان سلوك الدول الأربع الأخرى الموقعة مشروع القرار، وهي نيوزيلندا والسنغال وماليزيا وفنزويلا.
نتنياهو الذي أعلن فور صدور القرار رفض حكومته له وعدم نيتها التقيد به ألقى كامل المسؤولية على أوباما، وهو ما كرره مرة أخرى في جلسة الحكومة الإسرائيلية، متهمًا إدارة أوباما بأنها هي التي صاغت القرار وشجعته وتكفلت بتمريره، في نقض واضح (حسب ادعائه) للالتزامات الأميركية تجاه كيان الاحتلال، ومن ذلك التزام من أوباما نفسه في عام 2011م، وذكرت الإذاعة العبرية أن نتنياهو الذي يشغل حقيبة وزارة الخارجية استدعى السفير الأميركي في تل الربيع دان شابيرو، مشيرة إلى أنه سيلتقيه قريبًا لتوبيخه بسبب عدم استخدام واشنطن حق النقض ضد مشروع القرار.
نتنياهو أعلن في رد فعل أولي قرار حكومته إعادة النظر في علاقاتها مع الأمم المتحدة، فيما يشبه إعلان حرب على الأمم المتحدة ومنظماتها كلها، بدءًا من وقف دفع التمويل الذي تقدمه حكومته للمنظمة الدولية والمقدر بـ30 مليون شيكل (نحو 8 ملايين دولار)، وعزم حكومته على فرض عقوبات على الدول التي ساندت القرار، وما تبعه من استدعاء سفراء الدول الأعضاء في مجلس الأمن لتوبيخهم، لكنه دعا وزراء حكومته إلى التصرف بتروٍّ، وعدم إطلاق الحرية لألسنتهم بتصريحات ضد أوباما، أو لجهة الحديث عن رد إسرائيلي صارم على شاكلة تسريع البناء الاستيطاني، أو تسريع سن قانون لضم مستوطنة (معاليه أدوميم) شرقي القدس، أو فرض القانون الإسرائيلي على المناطق (سي) في الضفة الغربية.
فيض التقارير في الصحف العبرية، ووسائل الإعلام كان يشير إلى أن مراهنة حكومة الاحتلال على تغيير وضعها وموقفها مع دخول الرئيس الجديد دونالد ترامب البيت البيض في 20 كانون الثاني (يناير) المقبل لا تخفي القلق من عواقب قرار مجلس الأمن على عدة مستويات، خصوصًا تلك التي ستكون مرتبطة بقرار الدول لجهة إعطاء دفعة لحملات مقاطعة المستوطنات الإسرائيلية، وربما التوجه نحو مقاطعة الإنتاج الإسرائيلي كله، فضلًا عن الخطر الأكبر (من وجهة النظر الإسرائيلية)، وهو اتجاه المحكمة الجنائية الدولية إلى رفع مستوى تعاملها مع الشكاوى الفلسطينية بشأن المشروع الاستيطاني إلى مستوى فتح تحقيق رسمي في مدى كونها تنتهك القانون الدولي.
الردود الإسرائيلية الأولية، كتوبيخ السفراء الأجانب، وإلغاء الزيارتين المقررتين لرئيس حكومة أوكرانيا ووزير خارجية السنغال إلى كيان الاحتلال؛ فتحت الطريق أمام سيل من الدعوات من وزراء إلى تكثيف الاستيطان، وإعلان ضم المناطق "ج" في الضفة الغربية المحتلة والكتل الاستيطانية إلى الكيان الغاصب والغاضب، بشكل يبدو أنه أثار فزعًا لدى نتنياهو، ما فرض عليه التراجع ومطالبة الوزراء في الحكومة بالتريث قبل إطلاق التصريحات، والأخذ في الحسبان احتمال توجيه أوباما ضربة إضافية إلى الكيان.
قد تؤجل حكومة نتنياهو تطبيق الاقتراحات والخطوات التي أعلنها، وفي مقدمتها مسألة إقرار بناء 5600 وحدة سكنية استيطانية جديدة، يفترض أن تبت شأنها لجنة التنظيم والبناء التابعة لبلدية القدس المحتلة، لأنها تتوقع ضربات أخرى موجعة قبيل مغادرة أوباما سدة الحكم، إذ فتح تبني مجلس الأمن الدولي قرار وقف الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية الباب أمام احتمالات كثيرة تخشاها حكومة نتنياهو، أبرزها دفع واشنطن إلى استصدار قرار جديد يحدد استئناف المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهو ما بحثه صراحة اجتماع المجلس الوزاري المصغر (كابينيت).
نتنياهو يخشى أن يوجه الرئيس الأميركي المنتهية ولايته باراك أوباما صفعة سياسية أخرى إلى كيان الاحتلال، قبل أن ينهي مهام منصبه بعد نحو ثلاثة أسابيع، وهو ما يعرقل أي مساع للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، قد يقدم عليها كما هدد في أعقاب تصويت مجلس الأمن الأخير.
حسمُ هذه المسألة مرهون بما سيعلنه وزير الخارجية الأميركية جون كيري في خطابه، يوم الجمعة المقبل، إذ سيقدم رؤيته واقتراحاته لحل الدولتين، بناء على اجتماعاته مع الإسرائيليين والفلسطينيين في السنوات الأربع الماضية، والمصادر الإسرائيلية تتخوف من أن يطلب كيري صياغة رؤيته واقتراحاته في مشروع قرار يقدم إلى مجلس الأمن.
خطوة الولايات المتحدة الجديدة قد تتخذها بالتنسيق مع فرنسا، ما يعطي "مؤتمر السلام في الشرق الأوسط"، الذي ستضيفه باريس في الخامس عشر من كانون الثاني (يناير) المقبل دفعة قوية لتحقيق شيء ما قبيل تسلم ترامب مهامه رسميًّا في 20 من الشهر نفسه، فهل انتهى شهر العسل الأميركي الإسرائيلي، أم أنها مجرد ضربات انتقامية من تحت الحزام لمن قضّ مضجع أوباما خلال ثماني سنوات من حكمه من دون أن يكون قادرًا على لجمه حتى اللحظات الأخيرة؟