كانت الهتافات التضامنية تحتد في الخيمة التي لم يتركها مئات الشيوخ والنسوة في غزة منذ زمن بعيد، بوجوههم المفعمة بسيل من المشاعر، لا يدركها إلا من واجه ظلماً مشابهاً أو عاين عن قربٍ ما يواجهه أبناؤهم الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي من ويلات مستمرة.
في هذه الخيمة التي ينصبها ذوو الأسرى أسبوعياً أمام مقر اللجنة الدولية للصليب الأحمر بغزة؛ ترى خلف كل وجه غاضب دمعات تتربص، وتقرأ في كل حزن دعوة للانتباه، أن هذه القضية يجب أن تشغل حيزًا أكبر من الاهتمام المحلي والدولي، لا سيما وأن العالم غارق في فوضى متتابعة.
"لم يعد بإمكاني زيارته، ولا أعرف سببًا حقيقياً لهذا المنع" أخبرت أم رائد صحيفة فلسطين قبل أن تحول بيننا دمعات لم تستطع إخفاءها، وبينما تحمل صورة ابنها، تنظر إليها، وهي في محاولة مسح دمعها تقول:" يبكيني أن أنعم بالدفء وأعرف أنه يقاسي برد الصحراء، ووحشة الأسر؛ دون قدرة مني على الاطمئنان عليه أو أن أزوده بملابس تخفف من حدّة البرد في سجنه".
تحدثت أم الأسير بحرقة على ولدها الذي منعت من زيارته، ولسان حالها، أعرف أنني لست وحدي في هذه المعاناة، ولكن الحديث عنها لا بد منه، وأن لكل صوت حكاية للعالم أن ينتبه إليها.
آخر مرة كانت قادرة على رؤيته تعود لإبريل الماضي؛ قرابة الثماني أشهر وأم رائد تمنّي النفس بلقاء قريب، ولكن.. ليس كل ما يتمناه الفلسطيني يدركه؛ خصوصاً في قضية الأسرى.. دائمة التعقيد والتجاهل من قبل الإحتلال الإسرائيلي.
ولم يحمِ الشاب رائد آنذاك؛ اندفاعه لحماية الوطن، إذ اعتقل بهذه التهمة في اكتوبر 2004، ليضيع من عمره اثنا عشرَ عامًا، قضاها بسجن نفحة الصحراوي، من أصل 20 سنة حكم بها.
هل تشكل عجوز ستينية خطراً على الاحتلال؟ تتساءل أم الأسير باستنكار عن هذا المنع، وتستطرد بالحديث عن زياراتها السابقة له؛ الزيارة تستوجب منا الاستيقاظ قبل شروق الشمس وتأخذ منا نهاراً كاملاً حتى العودة إلى البيت؛ لأجل ساعة يتيمة أقضيها مع ولدي، هذه اللقاء القصير الذي كنا نحصل عليه كل شهرين، يكون لنا – نحن أهالي – الأسرى بمثابة عيد وفرحة نتوق لها؛ لأجل أن نملأ أعيننا وقلوبنا من أبنائنا المبعدين عنا. فرحة قصيرة لكنها بالتأكيد أفضل من هذا العناء الذي أكابده منذ ثماني أشهر منعت فيها من الزيارة.
وبعد أن ضاقت بها السبل، تلتمس أم رائد الأخبار من أهالي الأسرى الذين لا زال يسمح لهم بالزيارة، وتقول أنها الطريقة الوحيدة المتاحة، إذ توجهت لكافة الجهات المعنية بهذه القضية، دون جدوى. وذكرت بالخصوص جمعية الصليب الأحمر وجمعيات حقوق الإنسان.
ومثل أم رائد يعاني أهالي الأسرى بشكل مستمر، حالات مشابهة وأخرى أكثر تعقيداً. لكن الأمل والصمود هو عنوانهم الذي لا يتنازلون عنه أمام هذه المعاناة المستمرة، إذ يبلغ عدد الأسرى من قطاع غزة قرابة 370 أسيرًا من إجمالي عدد الأسرى الفلسطينيين الذي يصل لسبعة آلاف أسير. ويعتصم أهالي الأسرى في غزة بشكل أسبوعي، لتستمر الرسالة بالدعم وأن قضية الأسرى حية لا تموت، ومحاولة لانتزاع حقوقهم الطبيعية وأولادهم في الحياة.
في ظل الأجواء الاحتفالية التي تسبق العام الجديد، تتمنى أم رائد أن تجد هذه الاحتفالات طريقاً إليها، وأن تأتي السنة الجديدة بمعاناة أقل وفرحة أكبر يمثلها أن يتوقف الاحتلال عن قرارات المنع للأهالي من حقهم في زيارة أبنائهم الأسرى.
تودعنا أم الأسير، ولكن في مثل هذه القصص لا محل للوداع، طالما أن الحزن قائم والقهر لم يغادر بعد قلوب الأمهات. كل الرجاء في هذه الآونة أن تحل قضايا المنع الأمني هذه بأسرع وقت، وتناشد أم رائد كافة الجهات المسؤولة أن تسعى لأن تقرب بينها وولدها، وأن تخفف من وجع الغياب الذي طال؛ لأن الأمر إنساني ولا يجب على الإنسانية أن تنتهك بهذه الصورة.
"أريد فقط أن أراه بخير، وأن أتأكد أنه ينعم ببعض الدفء هو وزملاؤه الأسرى، أتمنى من الله الفرج القريب".
هكذا ختمت كلامها، سطر صغير أحال اليوم إلى وجع؛ كيف أننا وإن عرفنا بالمأساة، لا ندرك ما يصاحب أهلها من عذاب دائم ما لم نستمع إليهم، وكان هذا المطلب الأكبر حين إقامة خيمة الاعتصام هذه؛ رسالة مستمرة البث، أن أبنائنا الأسرى في سجون الاحتلال يجب ألا يكونوا وحدهم في هذه المحنة، علينا أن نكون دوماً إلى جوارهم وإن تخلى عنهم كل العالم.