ليس هناك فرق بين نقل السفارة الأمريكية إلى القدس خلال العام المقبل، كما سبق لمسؤولين أمريكيين أن أكدوا، ومنهم وزير الخارجية ريكس تيلرسون، وبين نقلها خلال العام الجاري، فالمسألة لا تتعلق بالتوقيت بل بالمضمون وبطبيعة الإجراء ذاته؛ المخالف للقرارات الدولية ولأحكام القانون الدولي.
غير أن اختيار 14 مايو/ أيار بالذات لتنفيذ هذا القرار الطائش، يحمل قيمة رمزية كبيرة. فهو يوم نكبة شعب فلسطين باقتلاعه من وطنه، وهو في الوقت ذاته يوم إنشاء الدولة العبرية على أرض فلسطين. وقد شاء من شاء في الإدارة الأمريكية، أن ينكأ الجراح الغائرة، وأن يخاطب الطرف الضحية بأن «نكبتكم لا تعنينا، وأننا نحتفل مع الإسرائيليين بهذا اليوم، باعتباره يمثل مناسبة سعيدة».
وأقل ما يقال في هذا الاختيار إنه عديم الحصافة، ويمثل استفزازاً صارخاً لشعب بأسره، ويمُس كرامته في الصميم.
ومن غرائب زماننا أن واشنطن لم تجد ما تفعله إزاء الخطأ الجسيم الذي ينطوي عليه قرار نقل السفارة، سوى أن ترتكب خطأ آخر لا يقل فداحة، يتعلق هذه المرة بالتوقيت، وكأن إضافة خطأ إلى خطأ آخر، يساوي ما هو صحيح (والمقولة هذه كتبها ذات مرة متهكماً غسان كنفاني، باسمه المستعار في الأنوار اللبنانية: فارس فارس).
وواقع الحال أن غرائب الإدارة في واشنطن بخصوص شرقي القدس المحتلة، لم تتوقف خلال الأسابيع الماضية. فالمندوبة الأمريكية إلى مجلس الأمن نيكي هايلي، تحاجج بأن قرار نقل السفارة قد مر بهدوء ولم تنطبق السماء على الأرض!. حسناً.
هل تعتبر سعادة السفيرة، أن وقوف أغلبية دول العالم في المنظمة الدولية ضد هذا القرار، هو أمر يشي بالهدوء؟! هل وقوف أقرب حلفاء واشنطن موقف المعارض للقرار هو أمر ثانوي وبسيط ولا يستحق التوقف عنده، أو القلق بشأنه؟
وها هو الإجراء الجديد باختيار يوم 14 مايو لافتتاح السفارة، يزيد في تسميم الأجواء، ويوطد قناعات ملايين البشر على امتداد القارات الخمس، بأن واشنطن ليست منحازة لتل أبيب فقط؛ بل هي شريكة لها في احتلالها. وأنها باتت فعلا جزءاً من المشكلة كما يقول رئيس فريق المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات، بعد أن اختارت أن تتحمل أوزار الاحتلال وشروره، بوقوفها معه موقف الشراكة و«الاندماج» والهزء بمواقف الأغلبية الساحقة من دول العالم وشعوبه ضد القرار.
يضاف إلى ما تقدم في سلسلة الغرائب و«الخوارق»، أن هذه الإجراءات غير العقلانية، تأتي متلاحقة، للتمهيد عن إعلان صفقة الرئيس دونالد ترامب، التي أسماها من سماها ب«صفقة القرن»، حيث تحدثت هايلي بأن الاستعدادات لإنجاز الصفقة قد اكتملت تقريباً، فيما رددت مصادر إعلامية أن يوم 12 مارس المقبل، هو موعد الإعلان عن الصفقة.
وبهذا فإنه لا يفصلنا سوى أسبوعين عن هذا الموعد، إن صحّت التقديرات. والتساؤل الذي يثار هنا: كيف للدولة الكبرى أن تتخذ موقفاً يُلبّي بالكامل مطلب أحد الطرفين (وهو الاحتلال)، حول قضية جوهرية هي قضية القدس، وقبل أن تجري المفاوضات.. أليس ذلك خرقٌ مسبق للمفاوضات، وتقرير لنتائجها قبل أن تُجرى؟!.
في سؤالها حول ما إذا كانت الصفقة ستشمل حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة، أجابت هايلي، بأن ذلك متروك للمفاوضات بين الطرفين. حسناً: لماذا لم تقم واشنطن بتطبيق هذا المنطق بخصوص القدس بترك الأمر للمتفاوضين؟ وكيف للوسيط أن يقرر من جانبه نتيجة مفاوضات لم تتم بعد؟ هل يبقى في الحالة هذه وسيطاً مقبولاً ؟ أو أن تثير وساطته مشاعر الثقة نحوه؟.
إن الأمر الذي يستحق المجاهرة به في هذا المعرض، أنه على الرغم من أي محاولات ستبذلها الإدارة لإقامة موازنات «رياضية، دقيقة» لتلبية المطالب المتعارضة للطرفين، فإن هذا الجهد غير قابل لأن يؤدي إلى أية نتيجة موضوعية.
فقد أفسدت الإدارة بأيديها مسبقاً الصفقة العتيدة المفترضة، وحكمت عليها بالإخفاق قبل الإعلان عنها، وذلك نتيجة التدخل السافر المسبق في مجرى التفاوض، واقتطاع القدس المحتلة التي تمثل أيقونة الأراضي المقدسة لمئات ملايين المسلمين والمسيحيين في المعمورة.
في الأمثال العربية التي تُناظر أمثالاً مشابهة لدى شعوب العالم: جاء ليُكحّلها فأعماها، ومن يزرع شوكاً لن يجني عنباً، ومن يزرع الريح يحصد العاصفة. عسى أن تكون هذه الأمثال مفهومة أكثر من التحليل السياسي، وتحمل رسالة أوضح.