بين العوامل التي أدّت إلى تنامي ظاهرة جنوح المجتمع الإسرائيلي إلى اليمين المتطرّف والفاشي، تكمن الوقائع السياسية والأمنية المتعلقة بإدامة الاستيطان وتوسيعه. يناهز عدد المستوطنين في الضفة الغربية المحتلة نحو 750 ألفاً. وقد ساهم هؤلاء في إنجاح الأحزاب الأشد تطرّفاً، فالكاهاني إيتمار بن غفير مستوطن في "كريات أربع" في قلب الخليل، في حين يقيم الزعيم الفاشي بتسلئيل سموتريتش في مستوطنة كدوميم، شمال الضفة الغربية، على أراضٍ مقتطعة من ثلاث قرى فلسطينية. ومغزى ذلك أن استشراء الغزو الاستيطاني في الأراضي المحتلة قد أدّى عمليا إلى إغلاق فرص الحلول السياسية (كما يمكن عكس المعادلة، بالإشارة إلى أن رفض الحلول السياسية شجّع على إدامة الاستيطان وتوسيعه). وبما أن للمستوطنين شبكة روابط وعلاقات داخل المؤسسات الإسرائيلية وفي صفوف المجتمع والأحزاب، فقد أدّى ذلك إلى أن يلعب الاستيطان دورا مشهودا في التحوّلات الجارفة نحو اليمين منذ بداية الألفية الثالثة.
وتخطئ القائمة العربية الموحدة في الداخل المحتل، حين تعتقد أنه يمكن غضّ النظر عن الاحتلال الاستيطاني والعسكري للضفة الغربية، وعن تداعياته على المجتمع الفلسطيني في الداخل المحتل، وأن في وسع ذلك المجتمع التركيز على قضاياه الحياتية فقط، مع تقديم بعض العون الموسمي العيني لأشقائهم. كما يخطئ بعض آخر من الساسة والناشطين، حين يتصوّرون أن عوامل داخلية وضعف اليسار والوسط فقط قد أدت إلى تضخّم المد اليميني، ومن دون ملاحظة أن الجموح الاستيطاني قد أخذ يفعل مفعوله في الانتخابات النيابية. وعلى سبيل المثال، أدّى ارتفاع نسبة التصويت لدى المقترعين الإسرائيليين، بمن فيهم المستوطنون، إلى رفع عدد الأصوات المطلوبة لتجاوز نسبة الحسم، وهو ما أدّى إلى إخفاق حزب التجمّع الوطني الديمقراطي، رغم أنه حاز أكثر من 138 ألف صوت، كما كان يمكن رفع مقاعد القائمتين العربيتين الفائزتين، لو لم تشهد هذه الانتخابات ارتفاعا في نسبة التصويت لدى المستوطنين. ويمتدّ تأثير الاستيطان والمستوطنين، بطبيعة الحال، من البرلمان (الكنيست) إلى تشكيل الحكومات التي باتت توصَف بأنها حكومات استيطان، كما هو حال حكومات بنيامين نتنياهو السابقة وتلك المرتقبة، وهو ما سوف ينعكس على أحوال المجتمع الفلسطيني داخل "الخط الأخضر"، بمزيد من الإجراءات التمييزية والعنصرية.
لقد تفشّت على سبيل المثال ظاهرة الجريمة المنظّمة وشبه الدائمة في المجتمع الفلسطيني هناك، مع اشتداد الطابع اليميني للحكومات الإسرائيلية ولأجهزة الأمن، وحيث يفلت الفاعلون من العقاب ويبقون في عداد المجهولين، نظرا إلى تواطؤ أجهزة الأمن معهم. لقد استفحلت ظاهرة الجريمة بالتزامن مع الجنوح أكثر فأكثر نحو اليمين، والذي يرتبط صعودُه وانتشاره بإدامة الاحتلال الاستيطاني والعسكري للضفة الغربية، وحصار قطاع غزّة وشن الحروب عليه. وظاهرة تمكين الجريمة المنظمة وسيلة لاختراق المجتمع الفلسطيني وتفكيك نسيجه وحرمانه من المناعة والتماسك، وذلك تحت طائلة تهديد الأفراد والعائلات، بعدما أثبت هذا المجتمع مدى حيويته وديناميته.
كما لا تتوانى قوات الأمن الإسرائيلية عن إطلاق النار على المتظاهرين الفلسطينيين في الداخل المحتل، خلافا لما تفعله مع المتظاهرين الإسرائيليين، حيث التظاهر حقّ مسموح به وفق القانون الإسرائيلي، لكن الأمر حين يتعلق بالفلسطينيين يختلف، بل لا يتردّد المستوطنون المسلحون في الانتقال من مستوطناتهم لتهديد المواطنين الفلسطينيين في الداخل، وحيث تفسح الشرطة المجال للمستوطنين للعربدة واستعراض أسلحتهم، وكما حدث في مايو/ أيار الماضي في مدينتي اللد ويافا فيما عرف بهبّة الكرامة.
ارتفعت في الحملات الانتخابية الإسرائيلية أخيرا أصوات تهدّد مليونا و800 ألف فلسطيني في الداخل بالترانسفير، وأصوات أخرى بشّرت بنكبة ثانية سوف تلحق بالمجتمع الفلسطيني وأصوات ثالثة هتفت الموت للعرب. ولا يختلف هذا الخطاب بشيء عن الخطاب الموجّه إلى أبناء الضفة الغربية الرازحين تحت الاحتلال، وبعض أصحاب هذه الأصوات مرشّحون للانضمام إلى حكومة نتنياهو قيد التشكيل. ومؤدّى ذلك أن الفوارق بين الفلسطينيين المواطنين في الداخل المحتل والرازحين تحت الاحتلال في الضفة أخذت تزول شيئا فشيئا وأكثر فأكثر في الوعي الصهيوني اليميني، وكذلك في ممارسة السلطات وقوانينها، وأهمها "قانون القومية" الذي كرّس "يهودية الدولة"، وأخرج الفلسطينيين من القانون، بما يجعلهم عمليا أقرب إلى مقيمين في وطنهم، فيما تُمنح "حقوق المواطنة" للوافدين من وراء البحار ولنسلهم، وحتى لليهود المنتمين إلى بلدانٍ أخرى، باعتبارهم مرشّحين وفق "قانون العودة" وتسهيلات وزارة استيعاب الهجرة، بينما يُنكر على أبناء البلاد الفلسطينيين وهم أصحاب الأرض حق المواطنة التي ما زالت مرعية في الشكل، ومطعونا بها في واقع الحال عبر سياسات تمييزية.
في ضوء ما تقدّم، بات يتعذّر فصل كفاح الفلسطينيين في الداخل لانتزاع حقوقهم، عن قضية شعبهم الرازح تحت الاحتلال وعن المشروع الوطني الفلسطيني برمّته، فالمدّ اليميني الفاشي والمتطرّف الذي يتخذ من الغزو الاستيطاني وتهويد القدس أيقونة له، يجد تداعيات مباشرة له على وضع الفلسطينيين في الداخل، بمضاعفة سياسة التمييز وتشديدها، ورعاية الجريمة المنظمة، والضغط لتقليص الوجود الفلسطيني في المدن المختلطة، وبالذات مدن عكا وحيفا ويافا واللد والرملة، وتضييق المساحة التنظيمية للمدن والبلدات.