يهمس مسلمون حائرون في بلدان أوروبية بأسئلة تطلب الفتوى من أئمتهم، على أمل أن تتيح لهم أداء الشعائر خلسة في مواقع الدراسة والعمل. وإن كان للسؤال عن حكم الصلاة في دورة المياه من مغزى جوهري؛ فهو المرحلة التي دخلها مسلمو أوروبا، أو في بعض بيئاتهم على الأقل، والتي يحفّها القهر الرمزي المتعاظم الذي يستفرد بهم.
تدفع الضغوط المعنوية، المعززة بهواجس واقعية من عواقب ملموسة الأثر، بعض المسلمين والمسلمات في أوروبا إلى ممارسة شعائرهم الدينية خفية أو على استحياء، أو إلى التخلي عن بعض سِمات الالتزام الديني الظاهرة وتعبيرات الخصوصية الثقافية. ومن يرغب بالإمساك بمفاتيح الحالة وفتح مغاليقها؛ قد يكون من المناسب أن يذهب إلى دينو فابريتسي تحديدا؛ بائع السيارات الفاخرة في الجنوب الفرنسي.
من هو دينو فابريتسي؟
يُفترَض أنه الإيطالي "دينو"، لكنه شخصية مزيفة تماما، فاسمه الحقيقي "مسعود بن سعود". اختطّ مسعود هذا لنفسه حياةً مزدوجة تقلّب فيها بين عالميْن منفصليْن. بقي مسلماً عربياً مع والديْه، واختار الظهور في مجتمع الأعمال الفرنسي بشخصية "دينو" الإيطالي لطمس حقيقة هويته ومنشئه، كي يدرأ عن نفسه احتمالات الإقصاء الاجتماعي والإضرار بمورد رزقه الوفير بين بائعي السيارات الفاخرة في مدينة نيس.
للحكاية شواهد وفيرة في الواقع، يجسدها على هذا النحو تحديدا فيلم "الإيطالي" الذي أتى بهذه القصة المتخيلة سنة 2010 في قالب فكاهي بلغ ذروته مع الإحراجات الطريفة التي واجهها "دينو" أو "مسعود" بالأحرى في مواقف متعددة. ضبطه أحدهم في العمل، مثلاً، عندما فتح باب مكتبه فجأة فوجده ملتصقا بالأرض بصفة غير مفهومة، لكنه كان يؤدي الصلاة خلسة. كما امتنع "دينو" بصرامة عن شرب الماء في نهار رمضان رغم إلحاح زملائه بعد أداء الرياضة تحت الشمس، وقدّم بين يدي ذلك أعذارا ساذجة كي لا ينكشف أمر صيامه. كثيرة هي المواقف الطريفة التي تلاحقت في فيلم "الإيطالي" على مدار مائة دقيقة، والذي حمل إصداره الألماني عنوانا أكثر تشويقا؛ هو "الصيام على الطريقة الإيطالية".
ورغم النهاية السعيدة التي آل إليها هذا الفيلم الفرنسي كي يُريح المنصرفين من قاعات العرض إلى رقادهم الهانئ، أسوة بتقاليد الأفلام الفكاهية؛ فإنّ واقع الديار الأوروبية لا يحمل بشائر نهاية حالمة؛ بل يُنذِر بمزيد من التدهور. فالضغوط الثقافية والمعنوية المتصاعدة على المسلمين في بيئات أوروبية عدة؛ تدفع بأسئلة قلقة عن جواز الصلاة في دورات المياه بعيدا عن عيون الزملاء والمديرين والأساتذة، خشية انعكاسات غير مرغوبة ضمن المحيط الاجتماعي في مواقع الدراسة والعمل؛ بما قد يهدد فرص الاندماج والنجاح والصعود.
وتتزايد سطوة القهر الرمزي في رحلة الصعود الاجتماعي، تماماً كما في حالة دينو فابريتسي، الذي هو "سعود" في الحقيقة، عندما رأى نجاحه التجاري مرتهنا بطمس حقيقته المسلمة. لهذا صلة بسقف زجاجي ترتطم به الأجيال المسلمة الصاعدة في مجالات الحياة الأوروبية. وهذا السقف كناية عن عوائق لم تكن مرئية للمسلمين للوهلة الأولى، وباتت تحجزهم عن الارتقاء إلى مواقع أعلى في العمل المؤسسي وعالم الأعمال والحياة السياسية والحضور المجتمعي؛ ما لم يقدِّموا تنازلات دينية وثقافية.
لا مفاجأة في حقيقة أنّ أشهر الوجوه المسلمة التي تحظى بالحفاوة العامة وتحصد الجوائز السخية في العديد من المجتمعات الأوروبية، تمارس نقدا ذاتيا مسموعا؛ تبلغ ببعضهم من السياسيين والإعلاميين والمثقفين، حد الانخراط في صناعة الإسلاموفوبيا، التي لا تستغني عن استدعاء حاملي أسماء مسلمة ليقتطعوا نصيبهم من التحامل على الإسلام وجلد ظهور المسلمين. أما الأئمة والخطباء والمحسوبون على العلوم الإسلامية فإنّ الأروقة المذهّبة مفتوحة لهم بقدر انغماسهم في موجة النقد الذاتي وشن الحملات على أصول الفقه وكتب التفسير، دون التلكؤ في مطاردة الإمام البخاري بالطبع؛ على أمل أن يصبح أحدهم "مارتن لوثر الإسلام" أخيرا.
النساء في بؤرة القهر
تتعاظم ضغوط القهر الرمزي على النساء والفتيات المسلمات بصفة مضاعفة، فالمجتمعات ترى فيهن، عادة، تعبيرا مرئيا عن الحضور المسلم بشكل عام، وتمنحهن المجلات أغلفة كريهة إن أرادت تناول شؤون الإسلام والمسلمين عموما. وتكفي جولة على أكثر الروايات والكتب مبيعاً في أي بلد أوروبي لتقفز إلى النظر من بينها أغلفةٌ مكرّسة لوجوه متوارية خلف البرقع والنقاب، تم انتقاؤها لتوافق قوالب نمطية سلبية عالقة في الأذهان، مع إضفاء معالجات بصرية على الصورة لإذكاء بواعث الارتياب والقلق لدى جمهور مرتعد الفرائص أساسا. إنها وصفة تسويقية راسخة على أي حال؛ تستعمل المسلمات في مناحٍ مُسيئة، بل مُرعِبة أحيانا، لتحقيق الرواج وإذكاء التسخين.
ولا تنقطع المعارك والحملات التي تخوضها الأحزاب الشعبوية الأوروبية، والتي لم تعد من أقصى اليمين وحده، ضد حق المسلمات في اختيار ما يرغبن من الملابس. وقد فاقم هذا التأجيج سطوة معنوية وإجرائية وقانونية تطارد المسلمات في بعض مواقع العمل والدراسة، وقد تحرمهن تماما من الالتحاق ببعض مرافق التعليم والقطاعات الوظيفية إن لم يرضخن لتعليمات السياسيين والإداريين في مواقع صنع القرار بالتخلي عن قطعة قماش محددة.
بهذا يُبَرهن القهر الرمزي على التمظهُر في سلطة متجسدة؛ تباشر التفرقة باسم "تطبيق المعايير" أو "الالتزام بالقيم الأوروبية" أو "مكافحة التطرف". وقد تنطلق المطاردات المثيرة على رمال الشاطئ كما حدث في واقعة لباس السباحة المحتشم على الساحل الفرنسي، عندما اندفع مسؤولون ذكور في صيف 2016 لمنع مسلمة من الاستلقاء على الشاطئ. كانت الرسالة واضحة في عموم أوروبا، وليس في الجنوب الفرنسي فقط: بوسعكن أيتها المسلمات الاستحمام بلا مشكلات؛ شرط التعري على الملأ.
لم تكن المشكلة في البرقع إذن كما قيل من قبل، ولا في ستر شعر التلميذات، ولا حتى في ذريعة "حياد المؤسسة التعليمية" التي تم بموجبها منع معلمات مسلمات على كفاءة عالية من مزاولة المهنة في بلدان عدة؛ فالمغزى المشترك بين هذه الوقائع وغيرها هو منحى القهر الرمزي الذي يستند إلى ثقافة الحظر بما تشي به من الإصرار على الاستبعاد من المجال العام، والدفع إلى الانزواء صوب هوامش غير مرئية، على نحو يحرِّض على أداء الصلاة في دورات المياه مثلا؛ لمن يصرّ من أولئك "المتزمتين" على التمسك بأدائها.
صعود فقه الاستضعاف
ينتعش "فقه الاستضعاف" مع اشتداد القهر الرمزي، ومن شأن هذا "الفقه" تيسير مهمة القهر الرمزي في إخفاء المسلمين والمسلمات من الفضاء العام وتذويبهم في المحيط؛ الذي ما زال يتباهى بشعارات قيمية برّاقة عن التعددية والتنوّع، والحرية الشخصية وحقوق الإنسان؛ بل يستعمل القيم في اتجاهات مناقضة لروحها وفحواها ويضرب بعضها ببعض على نحو استعمالي.
لا يزيد هذا "الفقه" المعضلةَ إلا تفاقما، لأنه يفترض بسذاجة أنّ تورية سِمات الخصوصية الدينية/ الثقافية هو السبيل المضمون لتخفيف الوطأة المتزايدة على بعض المجتمعات المسلمة المحلية في أوروبا. لا ينشغل هذا الخطاب "الفقهي" بمسؤوليته في تعزيز الانفتاح والتواصل والمشاركة والمواطنة وحماية الحقوق التي يفترض أن تكون مكفولة للجميع. كما لا يأبه هذا الخطاب بأهمية مساعدة المجتمع العريض على التكيّف مع مكوِّناته المتنوعة، وحثه على التطبّع مع التعددية الدينية والثقافية التي ينطوي عليها في الواقع خاصة مع حركة العصر في زمن العولمة.
تفترض بعض النخب المسلمة الأوروبية الواقعة تحت الضغوط والإغراءات، أنّ تنَصُّل المسلمين والمسلمات من سِمات ثقافية ودينية هو مطلب لا غنى عنه لاحتواء جموح القهر الرمزي أو إشباع النهش المعنوي الجاري على قدم وساق، وهو افتراض ينهض على جهل جسيم بسنن الاجتماع وتجاهل لدروس التاريخ الأوروبي ذاتها منذ أواخر القرن التاسع عشر. وما لا يرغب بعضهم بالإقرار به؛ أنّ هذه السمات المستهدفة ليست سوى ذرائع لشرعنة الضغط وممارسة التفرقة من خلالها، فالمشكلة لم تكن يوما مع قطعة قماش مثلا؛ بل مع الحمولة الرمزية الطاغية التي وقع تحميلها عليها، وهي حمولة ستبحث عن فريسة جديدة لها من السمات بعد كل جولة نهش. لا تنتهي المشكلة، إذن، بالتخلص من الذريعة؛ بل قد تتفاقم على الأرجح؛ لأنّ حمّى المطاردة الثقافية ستستهدف عناوين أخرى، خاصة إن لمست أرضية ممهدة، وانصياعا في المجتمعات المسلمة المحلية مشفوعا بشرعنة "فقهية" لمسلك الانزواء إلى زاوية تزداد ضِيقاً مع الوقت.
وإن نجا أحدهم برأسه برضوخه للتفرقة وتنازله عن حقوق مقررة له في المواثيق والدساتير؛ فإنّ من متلازمات عقلية الخلاص الفردي هذه أنها تتولى تخفيض السقف على رؤوس المجتمع المحلي المسلم وتشديد مواصفات العيش على الأجيال المسلمة الجديدة في مجتمعاتها الأوروبية.
لا تنقطع الشواهد على هشاشة الربط بين ظهور المسلمين في المجال العام ومنحى القهر الثقافي الواقع عليهم. فالأقاليم الأوروبية التي تضمّ عددًا أقل نسبيًا من المسلمين هي ذاتها معاقل التطرف اليميني والحمى الشعبوية المشبعة بالإسلاموفوبيا، وفيها تتأجّج أحزاب أقصى اليمين والحركات الفاشية وقوى مختصة بكراهية المسلمين، مثل حركة "بيغيدا" التي حشدت قواها ضد ما سمّتها "أسلمة أوروبا".
هذا ما عليه الحال، مثلاً، في الولايات الألمانية الشرقية، وفي المناطق الفرنسية التي توصف بالبيضاء، علاوة على بلدان وسط أوروبا وشرقها التي تضم نسبة شحيحة للغاية من المسلمين. تبدو سلوفاكيا الواقعة في وسط أوروبا خالية من المسلمين والمسلمات تقريباً؛ لكنّ هذه الحقيقة لم تشفع لنواب البرلمان الذين أطلقوا تحت سقفه حملة ضارية ضد "الأسلمة". نادى هؤلاء بمكافحة "الأسلمة"، وهي بتعبير "الحزب القومي السلوفاكي" تبدأ من كباب الدونر (الشاورما)، بما يفرض محاصرة شطائرها الخطيرة على قيم البلاد والهوية الثقافية، لكنّ مأزق هذا الهوس يكمن في أنها الشطيرة المفضلة للمواطنين السلوفاك، حتى بما تجاوز وجبات تقليدية موروثة. لا مجال في الحياة السياسية السلوفاكية للمبالغة في استدعاء ذرائع تقليدية ضد ستر الشعر أو تشييد المآذن غير الموجودة أساسا، ولهذا التجأ خطاب القهر الثقافي إلى الذريعة المذهلة هذه التي استقاها من قوائم الوجبات السريعة.
أما في فرنسا التي انطلقت منها موجة حظر ستر الشعر قبل عقود؛ فلم تهدأ متوالية الضغوط بعد سن قانون 15 مارس/ آذار 2004 بحق التلميذات؛ بل واصلت طريقها بلا هوادة رغم الصرامة في تطبيقه عند أبواب المدارس. هكذا باتت بلاد السين والرون على موعد متواصل مع حملات تتعاقب على سمات الحضور المسلم في المجال العام، خاصة في المواسم الانتخابية.
وفي سويسرا البديعة ثمة ما يعكِّر صفو الاستمتاع بتناول الشوكولاتة على ضفاف بحيرة خلابة أو على سفح قمة جليدية. فقد جرى خلال العقد الماضي اعتبار المآذن "تهديدا ماحقا" لهوية البلاد الثقافية، وتمت تعبئة المواطنين سنوات متعاقبة ضد هذا "الخطر الداهم"، ثم وقع استدراج المذعورين إلى استفتاء عام قضى بحظرها على نحو يتجاوز مبدأ الحرية الدينية الدستوري، وهذا بحق المآذن دون سواها من أبراج دور العبادة للطوائف الدينية كافة. لم يهدأ جموح القهر الرمزي؛ بل واصل طريقه ككرة ثلج متدحرجة من أعالي الألب. لم تكن المآذن هي المشكلة الجوهرية إذن، فرغم حظر تشييدها تابع مثيرو الذعر التنقيب عن ذرائع جديدة تتيح مواصلة المطاردات الضاغطة على المسلمين؛ قانونيا وإجرائيا ومعنويا.
اختفاء جلال ومحمد
يحظى "فقه الاستضعاف" بشعبية خاصة في عواصم عربية تخوض معركتها التاريخية ضد التطرف، برعاية كريمة من السيد ترمب وأسرته الطيبة وصهره الوديع. وقد نجح هذا "الفقه" في ترسيخ أقدامه في مواقع متقدمة من مؤسسات عريقة مثل "الأزهر"، الذي تسلّح ساسة أوروبيون خلال العقد الماضي بفتاوى منسوبة إلى شيخ راحل وقف على رأسه، لتبرير إرغام المسلمات على التخلي على الستر الشرعي أو لتسويغ تعطيل الذكاة الشرعية للذبائح في المسالخ الأوروبية.
دخل "فقه الاستضعاف" طورا جديدا مع تحوّلات شهدتها مؤسسات بارزة، منها "رابطة العالم الإسلامي"، التي انبرى أمينها العام لمطالبة المسلمات بمغادرة بلادهن الأوروبية إن لم يرضخن لقوانين تحظر الستر الشرعي. تخلّت مؤسسات عريقة كهذه عن دورها الجوهري في بيان أحكام الإسلام والدفاع عن مصالح المسلمين حول العالم، وانساقت فعليا إلى حملة القهر الرمزي عبر شرعنتها "إسلاميا" مع إغفال التذكير بالديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات الأساسية. فما اقترحه "المسؤول الإسلامي البارز" جاء من الناحية الشكلية فقط تخييرا بين الانصياع لموجة الحظر أو مغادرة أوروبا؛ لكنّ فحواه الفعلية لم تكن سوى شرعنة صارخة لمنحى الإذعان للتفرقة، مع دفع المسلمات الأوروبيات تحديدا للتنازل عن الستر الشرعي، وهذا لأنّ "رابطة العالم الإسلامي" لم تقترح عليهنّ خيارات واقعية بديلة، من قبيل فتح الإقامة لهنّ بجوار الحرمين الشريفين مثلا.
رسالة القهر الرمزي واضحة، فعلى المسلمات أن يختفين من المشهد ببساطة، كما فعل جلال ومحمد تماماً، عندما مارسا فعل الانصياع للتفرقة والتنصّل من الذات. وفي الواقعة أنّ الشاب "جو" فتح باب السيارة بابتسامة عريضة، وتناول حقيبتي بأدب جمّ، وحملها إلى مدخل الفندق. حدثني بعربية سليمة، لكنّ اسمه المكتوب على لوحة التعريف المثبتة على صدره بالإنجليزية كان "جو". إنه "جلال"، حامل الحقائب، الذي رضح لتعليمات مدير الفندق القريب من مقار الاتحاد الأوروبي في بروكسيل، عندما اقترح عليه وعلى زميله الآخر محمد تغيير اسميهما؛ تفاديا لإزعاج الجمهور بخلفيتها العربية المسلمة. وجدت محمداَ يبتسم للزبائن مع لوحة تعريفية باسم "مو"، أسوة برفيقه الودود "جو"، ومثلهما فعل كثيرون ارتضوا الإذعان ولم يساعدوا الأجيال المقبلة على اقتطاع مساحة مواطنة لائقة بها تحت الشمس. إنها واقعة نمطية أخرى من منحى تورية الخصوصية الدينية/ الثقافية تحت وطأة القهر الرمزي وضغط المحيط.
ويبقى السؤال قائما: ما حكم الصلاة في دورات المياه؟ لعلّ الجواب عند "رابطة العالم الإسلامي".