إن الإنسان بفطرته يريد أن يكون محبوبا متقبلا محترما, ولعل الأسرة هي المكان الأول الذي يعزز هذه الاحتياجات ويشبعها عند الإنسان, وإن لم تفعل, فإنه لا محالة باحث عن الحب خارجها, في أماكن أخرى, ولدى أشخاص آخرين غرباء, يجد لديهم الحب والتقبل والتقدير حتى لو كان طريق الغرباء مهلك, فإنه لا محالة سيسلكه بحثا عن ضالته.
والمجتمع الذي يستعجل تزويج أبنائه ثم يستعجل إنجابهم للأبناء بنفاد صبر وتباه بالعدد والنوع, حري به أن يهتم بتعليم أفراده سر السعادة والاستقرار ويهتم بما سيتلقاه الأبناء من تقبل واحترام وتقدير وحب, وينشر الوعي بالمسئولية الأسرية بقدر نشره لأفكاره السطحية عن إنجاب الذكور وامتلاك عدد كبير من الأبناء.
ولعل الدول الغربية التي لا يقيدها دين ولا شرع فاقتنا كمجتمعات عربية مسلمة في وضع قوانين تجبر الآباء على بذل الرعاية والاهتمام والمعاملة الحسنة للأبناء, وتعاقب كل متهاون في أداء مهامه الأبوية, وقد يصل الحال في كثير من الأحيان إلى إبعاد الأبناء عن الآباء بالقانون إن تعرضوا للعنف أو الإهمال, وإيداعهم دور رعاية خاصة , وإخضاعهم لبرامج تأهيل تعالج ما تعرضوا له من إيذاء نفسي وعاطفي على أيدي آبائهم.
أما نحن فلا قانون يلزمنا برعاية الأبناء ولا دستور يجبرنا على بذل الحب والرعاية لهم فالأمر لا يتعدى كوننا ملزمين بتقديم الدعم المادي لهم كل على قدر إمكاناته, ولا يهم بعده إن كنا لا نقدم رعاية وأمان وحب وتقدير أو أن نحتضن أبناءنا في عناق طويل يملأ خواء أرواحهم دفئا.
تساؤل علينا جميعا أن نفكر به حيال أبنائنا, ما هي الرعاية اللازم تقديمها لهم لكي نتجنب انحرافاتهم السلوكية وجنوحهم للجرائم بمختلف أنواعها ؟
إن أول ما يحتاجه الطفل من أبويه هو التقبل, فعليهما تقبل جنسه وشكله وقدراته وعدم مقارنته بأي طفل آخر حتى لو كان من إخوته وأخواته.
ثم علينا توفير الأمان والحماية له , فنبعده عن كل ما يؤذيه سواء أخطار مادية أو معنوية, فنتجنب الشجارات الزوجية أمامه, ونبتعد عن تهديد أمنه داخل الأسرة بتهديد استقرارها. ونبعده عن النوافذ الالكترونية التي تفقده براءته ونقاءه وتجرفه لعالم الغرائز والرغبات والعلاقات غير المشروعة. نحميه من التكنولوجيا التي نسخرها له لكي لا يشغلنا فتهوي به إلى عالم الرذائل.
وعلينا منحه الكثير من التقدير من خلال مدحه و تشجيعه والثناء عليه ولا ننسى التعزيز العاطفي من خلال العناق والقبلات والتي أثبتت الأبحاث أن لها تأثرا كبيرا على الجميع, خاصة الأطفال والمراهقين حيث تزيد الشعور بالسعادة والأمان والثقة بالنفس وتعزز الروابط والثقة المتبادلة, والحضن ليس المراد به التلاصق الجسدي فقط , وإنما مع التلاصق الجسدي يتم نقل المشاعر الدافئة والعواطف الجياشة التي تمد من نحضنه بالحب والرحمة , فتكون بمثابة شحنة عاطفية تعطيه الطاقة والانطلاقة , وتحميه من الانزلاق في حفر البحث عن العواطف الزائفة. ومن دلائل أهمية العناق لدينا كمسلمين كتابة الإمام البخاري عنوانا في صحيحه سماه (باب المعانقة).
إن الآباء المنشغلون بأنفسهم ومشاكلهم عن أبنائهم يصنعون بأيديهم الفجوة فيما بينهم, ومع الأيام تتسع الفجوة حتى يغدوا أفراد الأسرة الواحدة كالغرباء لا تجمعهم سوى كلمة المرور لشبكة الإنترنت. ويصبح لكل منهم عالمه الخاص الذي لا يهتم به أحد إلا إذا حدث أمر خطير خاصة في عالم المراهقين.
وتعد أكثر المراحل خطورة تقتضي الاهتمام والرعاية وإظهار الحب والتقبل والتفهم هي المرحلة الانتقالية بين الطفولة والبلوغ والمعروفة بالمراهقة, فلا يجوز أن يترك الطفل وحيدا يتخبط في تقلباته الفسيولوجية واضطراباته النفسية واحتياجاته العاطفية, إذ يجب أن يمنح الكثير من الاهتمام والحب والمشاركة , ويجب حثه على التعبير عما يجول بفكره من خواطر من وفي صدره من مشاعر, وقد أكدت جميع الدراسات التي أجريت على المراهقين أن الآباء يستطيعون مساعدة الأبناء حتى يمروا من هذه المرحلة بسلام, لكن الآباء لن يتمكنوا من مساندة المراهق إلا إذا كانت تربطهم به علاقات وثيقة وحميمة, وهي التي تساعده على أن يخرج إلى الحياة إنسانا متوازنا وصبورا وقادرا على ضبط النفس.
إن البيت المسلم الحق هو الذي يملأه الحب والتقدير والاحترام والذي يهتم فيه كل من الزوجين بمنح كل الحب والتقدير للآخر ومن ثم يمنحان أبناءهما الحماية والأمان والرعاية ويهديانهم الطريق الرشيد ويكونان إلى جوارهم في كل مراحل الحياة ويحميانهم من أنفسهم أولا ثم من براثن العالم الخارجي.