قلنا إنه لا يوجد في ماكينة العذاب التي تسمى سجونًا عندهم أي اعتبار لكون المعتقل طفلًا، وزد على ذلك، أو امرأةً أو مريضًا أو مسنًا. الناس في العذاب سواء، لذلك ما يقال عن عذابات السجون يندرج على الأطفال تماما. هو في نظرهم مخرب يستحق العذاب، ولا بد من ردعه وقهره بكل ما لديهم من صنوف هذا العذاب.. نذهب بذلك إلى اليافعين والفتيان والفتيات، فهل يصل ذلك إلى من ولدوا في السجون وكانت أعمارهم أشهرًا وأيامًا؟
قبل ذلك، لم أنس خاتمة المقال السابق، حيث تساءلت عن مطلب طفل التقيته في زنزانة مجاورة، ودارت بيننا أحاديث طويلة، كان الذي يريده هو أن يسمع صوتا يبدد وحشة عتمة الزنزانة.. وجد أنيسا من الإنس بعد أن حشرته الشياطين في واد سحيق لا يسمعه أحد ولا يسمع أحدا، أما وقد وجد أحدا من عالم الإنسان فقد عادت له روحه، وعاد قلبه للانتظام، ولو شيئا قليلا وسط زحام الهواجس، وخيال ذهب به بعيدا في عوالم سوداء لا يوجد فيها بصيص من نور تتعلق به روحه المعذبة.
قصة اليوم مع من عاشوا طفولتهم الأولى في السجن.. وكانت بواكير حياتهم خلف جدرانها السوداء.. وإذا سألنا: لماذا كل هذا العذاب والحرمان؟ يتبادر إلى الأذهان إما مقاومة الاحتلال أو المشاغبة أو تعكير الماء الذي يشرب منه دون مراعاة جنين في رحم أمه. ولكن، ماذا لو وقفنا على قصة امرأة بعد عذابات طويلة هي وطفلتها على مدار ستة وثلاثين شهرا في السجن، وقد حكمت محكمة الاحتلال ببراءتها من التهم المنسوبة إليها؟ هذه نهاية القصة، أما من البداية فحدّث عن العجب العجاب.. وقد كانت هذه القصة من القصص الواقعية التي اعتمدت عليها كرافعة لمعنويات ذاك الطفل الذي كان جاريًا في الزنزانة.
هكذا في ليلة من ليالي الاحتلال الحالكة انقضوا على بيتنا، وفي عملية قيصرية نزعوا من البيت أهم أركانه، أصبح بلا أم وزوجة، تماما كالروح بلا جسد، وكالنبات بلا هواء وماء.. الأم في زنازينهم تتلظى أقسى أنواع العذاب، إذ لم يعد بمقدورها ضم طفلتها إلى صدرها إلا ما استحضرته في خيالها بمشاعر وأحاسيس، فتنطلق لاهثة دون أن تجد ضالتها.. والطفلة تجوب أركان البيت زاحفة دون أن تأوي إلى حضن دافئ اعتادت عليه طيلة خمسة عشر شهرا، فلا تجد سوى برودة قاسية لا حياة فيها.. تبكي ولا أحد يعرف سر بكائها.. يفيضون عليها من حنانهم ولكنها لا تجد ذاك الحنان المفقود..
تضرب أمها عن الطعام قرابة عشرين يوما، لتحقق لملمة مشاعرها وجمعها مع مشاعر طفلتها.. ذهبت إلى أمر أخف قليلا في مرارته من مرارة هذا الذي لا يطاق.. هل توافق أمٌّ على إدخال طفلتها السجن؟ هل ترضى أن تصبح طفلتها سجينة وهي تعرف حق المعرفة كم ستعاني هذه الطفلة؟ إننا أمام لغة لا نفهمها.. لغة الأم ومشاعرها..
وتلتقي الطفلة عائشة ابنة المعتقلة عطاف عليان مع المعتقلات، منهن أمهات متعطشات لطفولة أبنائهن الهاربة منهن.. تلتقي عائشة مع نور ابن الأسيرة منى غانم الذي ولد في السجن.. يا لها من حياة تناقضت وتضاربت فيها المشاعر بين الألم المر وفرح الطفولة البريئة.. كيف تصنع المحرومات المعذبات سعادة لطفولة تحدها جدران الزنازين وأشواك سقف الفورة العارية من أي معنى من معاني الحياة.. كيف يجدن سعادة بين نعيق سجانات فاجرات، وهدير بوسطات ومحاكم لا تعرف إلا لغة القهر والبطش، وقتل كل ما في الحياة من حياة؟.. كيف ترسم أمٌّ ابتسامة لطفلتها وهي غارقة في بحر من الآلام؟!
وتسير هذه الأيام التي من المفترض أن تكون أيام طفولة جميلة، كل يوم له معنى جديد يرقبه والدا الطفل، تسير على الشوك، ويُولد كل يوم جديد بشق الأنفس.. بين الفورة والزنزانة والبرش والبوسطة والمحكمة تتولد لغة طفولة لا مكان لها في قواميس البشر، تتنافس المعتقلات في ابتكار أدوات السعادة لهذه الطفولة الجميلة وسط أسلاكهم الشائكة، يحاولن التعويض عما فات.. أسيرة تقلد أصوات القطط، وأسيرة تخيط أرنبًا، وتلك تغني لحنا يحبه الأطفال، وأسيرة تتعاون مع ثانية في تمثيل أرجوحة يمرجحن فيها عائشة، ويأتي يوم يقرر فيه الاحتلال قطع هذه السعادة.. الإفراج عن الطفلة دون أمها قسرا.. ويحدث مرة أخرى هذا الانفصال النكد.. "عليك أن تأتي لاستلام ابنتك".. وتنطلق ابنة السنتين فارة من السجن وويلاته.. لا تنظر للخلف، لسان حال فطرتها البريئة يقول: أمي أم الحرية، أختار الحرية على أمي.. يا إلهي، ألهذه الدرجة تعني الحرية؟ ألهذه الدرجة يعني حرمان شعب كامل من حريته، وإغراقه في ظلام الاحتلال على مرأى ومسمع العالم أجمع الذي يدعي زورًا وبهتانًا أنه العالم الحر؟؟
هذا غيض يسير من فيض دونتُه في رواية أمهات في مدافن الأحياء.. من أراد التفاصيل يجدها هناك..