صباح يتنفس شهادة أُخرى على قارعة هذا الوطن، هذا الكبير الضيّق الذي لا ينفك يُثقل مُقل الأمهات وحيرتهن، ولا يزال يُلقمنا جُرعات السكوت كي يُخمدَ اشتعال الغيرة والحنين في بقيّة هذا القلب، بقيّة هذا الوطن، بقيّة هذا الجُرح.
وهذا الجوف مُمتلئ بالأسئلة، كُلٌّ منها يتزاحم، علّ جوابًا ما يتعثر بها خجلًا، صباح القدس تعقد اتفاقية رحيل باردة مع مراكبِ السماء، وخبرٌ عاجل يصفعُ وجهَ نشرة الأخبار، ولا يُدهش تفاصيلَ وجوهنا، صباحاتك كلها خير يا وطن الخيبات، مع أنّك لستَ بخير، صباح الوجع، الذي لا يلتفت إليهِ أحد.
صباح الأمل، وإن فقدنا الأمل؛ فعند الله لا تضيع الآمال.
أيّها الشهداء، الراحلين عبرَ النسيان، أما بعد:
فلا تعذرونا، من ذا الذي يُخلّد أسماءكم سوىَ سجلات السماء؟!، مُذ امتلأت ذاكرتنا بالتفاصيل البائسة صارت قلوبنا خواء حدّ أن نسينا أنفسنا.
لطفًا منكم، لا تحاولوا التماس الأعذار لنا؛ فمذ امتلأت صفحاتنا عبرَ (فيس بوك) فرغت قلوبنا وأصبحنا نُرقعها ببضعِ كلمات كي نُلقِمَ ضمائرنا شيئًا من الخجل.
أيها الباقينَ في رائحةِ الأرض، قلوبنا أُغلقت حتّى تنتهي "الدراما العربية "والتي بعدها والتي بعدها حدّ الإشعار الذي يقرره مجموعة من البلهاء، و"الأقصى" مفتوح مذ أول طوبةٍ بنيت فيه، ولكنّنا لا نريد، لأنّ عيوننا مشدودة قِبَلَ أشياء أخرىَ.
واللهِ، لو أخلصنا وأيقنا حق اليقين لوصلنا بقلوبنا قبلَ أجسادنا، ولكننا لا نُريد.
واللهِ لو أردنا لأنفقنا أعمارنا في سبيله، ولكنَّ أرصدة قلوبنا وجوالاتنا تتجه نحو الرسائل الفارغة، ويأتي لكَ أحد الحمقىَ ويقول لكَ إنّ فلاّنًا أو فلانة يمثلانك، لا أدري ولا أفهم حقًّا منذ متى أصبحَ الذينَ يملكون أهواءهم يقررونَ عنّا ما يمثلنا؟!
لو كانَ الأقصىَ يمثلنا حقًّا، لو كانَ عقيدة، لكنّا نصلي فيهِ متّى شئنا، في الوقتِ الذي نريده، وما حلمنا بذلك مجرد حلم ورغبة وتمنٍّ.
أيها الراحلينَ عبر الموت الخاطف المُوجِع، لا تعذرونا.
فما أقربَ الأقصىَ!، وما أبعدَ أبعدَ أبعدَ أرواحنا!
يا أيها الراحلون، المؤمنين بأقدارِ الله، الكافرين بدعاوي السلام، وحدكم أنتم ووحدهم أهل المدينة من سيقاوم.
وحدكم ستثبتون لكل العالم أنّ القدس لها ناسها، ولها تاريخها المحفور في كل جدارٍ فيها وفي كل شارع وكل حارة من حاراتها، وحدكم من سيدافع عن حق المسلمين في حين يشاهد الجميع، أتساءل عن كمية العار والبؤس التي سيكتبها التاريخ.
بالمناسبة القدس ليست بحاجة لاعتراف من أحد، فليذهب اعترافهم هذا إلى الجحيم، القدس تتحدث عن نفسها دومًا، وكل أزقتها تشهد بذلك، وإن زرعوا فيها آلاف الغرباء "الغربان" الذين لا يشبهونها.
ولو خذلها كل العالم فستبقى حقًّا لمن يستحقها، دماؤكم الزكيّة التي تشربتها، وصرخات المبعدين التي تتردد إلى اليوم في حاراتها، وصوت المآذن، وأجراس الكنائس، وحمام القدس، ورائحة الكعك، وضحكات الصغار، وأحاديث العجائز التي لا تُمل وذاكرتهم الممتلئة بها، وسوق القدس وباب العمود، وصوت الأغنيات الشعبية، وازدحام المصلين في يوم جمعة، كيف لهذه الأشياء أن تُمحى بورقة واحدة ونعاق واحد من شخص أحمق؟!
هم يحلمون بذلك، بالتأكيد.