لم يتفاجأ أي من الحكام العرب مما فعله الرئيس الأمريكي، وبعضهم ربما وَاكَبَ تطور قراره بشأن القدس بصمت وخنوع، كون معظمهم إما يعلم سابقًا أو أنه قد أبلغه ترامب قبل أن يعلن قراره الاعتراف بالقدس عاصمة للاحتلال الإسرائيلي. وبغض النظر عن صحة أو عدم صحة هذا الافتراض أو ذاك، فإن ما يتم فعله الآن فلسطينيًا وعربيًا وإسلاميًا إنما هو رد فعل ضعيف يخلو من أي قيمة حقيقية مقارنة بالفعل الذي تم، في محاولةٍ أمريكيةٍ واضحةٍ لشرعنة الاحتلال واغتيال كافة قرارات الشرعية الدولية.
فلولا تقاعس وخذلان العرب لما تجرأ الرئيس الأمريكي على اتخاذ قرار يشبه "وعد بلفور" بمنح القدس المحتلة عاصمة لدولة الاحتلال الإسرائيلي عربونا لدعم موقفه الداخلي المعرض للانهيار بالحصول على إرضاء المنظمات الصهيونية التي تتحكم بدرجة كبيرة في صناعة القرار الأمريكي، وكالعادة لا يزيد رد العرب على هذا الإجراء سوى التظاهر، وحرق الأعلام، والمناداة بالمقاطعة، واللجوء والمنظمة الإقليمية المشلولة، وللمنظمة الدولية المتواطئة التي تحركها نفس القوى التي مكنت (إسرائيل) من هزيمة العرب.
في السابق كانت مكانة فلسطين عند العرب تحتل الصدارة وفي أحد اجتماعاتهم بعد نكسة عام 1967 أجمعوا على اللاءات الثلاث، لا تفاوض ولا صلح ولا اعتراف لكيان الاحتلال الإسرائيلي، ثم أحجموا عنها وبدأت سوسة التطبيع تنخر في أجسادهم بداية باتفاقية "كامب ديفيد" عام 1977 وزيارة السادات للقدس، وصولا باتفاقية أوسلو وأخواتها، الأمر الذي شجع بعض البلدان العربية التطلع الى التطبيع بإقامة علاقات كاملة مع الاحتلال الإسرائيلي، ولو أن علاقاتها معه كانت سرية، لكن اليوم تريدها علنية.
العرب حنطوا القضية الفلسطينية وتحجروا معها، تراهم مبدعين وحداثيين ومعاصرين في معظم مجالات الحياة، متفوقين في التكنولوجيا والفنون والغناء والتمثيل، بعضهم ناجح اقتصاديًا بصورة مبهرة، منهم العلماء والمثقفون والمعماريون... إلخ، ولكنهم عندما يأتي الأمر لفلسطين يتحولون إلى آلات جامدة تفعل ما تعودت فعله منذ سبعين عامًا، دون مراجعة لجدوى هذه الأفعال، أو تأثيرها، ودون ملاحظة أنها لم تحقق شيئا في المرة السابقة. يقول أينشتاين: «من الغباء أن تكرر الشيء ذاته بنفس الخطوات وبنفس الطريقة وتنتظر نتيجة مختلفة» ولكن العرب يختلفون مع أينشتاين مع احترامهم له، إنهم يفعلون نفس الخطوات ويكررونها ولا ينتظرون أي نتيجة مختلفة، هم يفعلونها على سبيل العادة، وإراحة الضمير، ورفع العتب، وتجنب اللوم، ولا يريدون غير ذلك.
ما تحتاج إليه فلسطين والقدس أن يفكر العرب في وسائل جديدة مبتكرة تناسب معطيات العصر، ومعادلاته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، لتحقيق الهدف المنشود، وهو إعادة الحق الفلسطيني والعربي المهدور، وعدم التعويل على أمريكا التي ترقص على الجبلين، تنهب خيرات وأموال العرب وفي نفس الوقت توجه لهم صفعة تلو الأخرى من أجل محاباة كيان الاحتلال، فبعد الكرم والسخاء العربي الذي حظي به رئيسها ترامب، الأمر الذي مكنه أكثر ممكن في بداية توليه، فقد أعلن بكل بجاحه ونكران للجميل أن القدس عاصمة كيان الاحتلال متجاهلا قرارات مجلس الأمن التي اعتبرت القدس محتلة، ثم بكل استخفاف للعرب يطالبهم الرجوع إلى ما يسمى بعملية السلام، وطبعا يجد من يسوق له فهذا الكاتب الإسرائيلي، ألون بن مئير، يقول في مقاله بعنوان: (اعتراف ترامب ومستقبل حل الدولتين)؛ "من وجهة نظر إدارة ترامب، لم يكن هناك شيء في بيان الرئيس الأمريكي يتعارض مع فرضية أن القدس سوف لا تزال في نهاية المطاف عاصمة لكل من الدولة الإسرائيلية والفلسطينية. والواقع أنها قد تولد زخما جديدا نحو استئناف مفاوضات السلام، حيث يدرك الفلسطينيون الآن أنهم كلّما انتظروا وقتا أطول كلما زاد احتمال فقدانهم للأرض. وقال ترامب “لقد قيّمت مسار العمل هذا على أنه الأفضل لمصلحة الولايات المتحدة الأمريكية والسعي لتحقيق السلام بين إسرائيل والفلسطينيين. وهذه خطوة طال انتظارها لدفع عملية السلام قدما والعمل من أجل التوصل إلى اتفاق دائم“.
أفهم من هذا أن ترامب لا يزال يدافع عن صفقة القرن التي وعدنا بها والحقيقة أنه استباح قدسنا وأقصانا بعد أن رجم إبليس العرب، في محاولة منه لإفهامهم بإرسال نائبه بنس انه سليم النية وحريص كل الحرص على مصلحتهم وعزمه على تحقيق السلام وأنه لا يقصد شرق القدس بل غربيها _كما يدبلجها بن مئير_ واذا كان هذا الافتراض صحيحًا، فالسؤال الذي يطرح نفسه: إذا كان ترامب لا يقصد شرق القدس؛ لماذا استعملت أمريكا حق النقض الفيتو في مجلس الأمن لإفشال طلب مصر أن شرق القدس عاصمة فلسطين؟ ولماذا تعاقب أمريكا كل من سيؤيد ذلك في الجمعية العامة؟