أصبحت مسألة حسم الاحتلال للصراع الديمغرافي في مدينة القدس المحتلة لصالحه؛ مسألة واقعية وماثلة ميدانيا وخرجت منذ زمن من إطار الافتراضية، فالمدينة التي تشهد مرحلة غير مسبوقة من التغيير الجذري لصالح تهويد الطابع الديمغرافي والاقتصادي والاجتماعي والعمراني؛ باتت مُرهقة تحت وطأة اليهود.
الإنصاف يقتضي أن نذكر الحقيقة دون مواربة، فالاحتلال لم يكلّ ولم يملّ من تحويل الأغلبية في القدس لصالح اليهود المحتلين على حساب العرب، فمن بعد عام 1948 أصبح مقابل أكثر من 100.000 يهودي أقلية عربية لا تزيد على 50.000 فلسطيني!
وبعد حرب عام 1967؛ استمرت سياسة توسيع حدود بلدية القدس من 6.5 كلم2 إلى 72 كلم2، بأوسع مساحة من الأرض الفارغة وبأقل عدد من السكان حتى تكتمل أركان التمكين في القدس يهوديا.
لقد وضع الاحتلال برامج إستراتيجية وتكتيكية مدروسة لتهويد القدس بشكل عملي وفرض سياسة الأمر الواقع، ونجح إلى حد كبير في تهويد المدينة بشكل ملحوظ في هذه المرحلة على أقل تقدير.
صحيح أن المقدسيين قدموا نموذجا رائعا في الصمود أمام التمدد اليهودي الاحتلالي في القدس، لكن ذلك لا يكفي وحده، بل إن ذلك أيضا لم يمنع من فرض تلك البرامج التكتيكية المدروسة نحو تهويد المدينة، حيث وضع الاحتلال أساسات بناء أحياء يهودية شرقي القدس لتقام عليها سلسلة مستعمرات أحاطت بالقدس من كل الجهات، ومَلَأها بالمستوطنين اليهود الذين يتم استجلابهم من مقاليع الأرض.
في عام 1973 اتخذ الاحتلال قرارا بجعل نسبة السكان العرب من إجمالي السكان العام في حدود بلدية القدس 22% مقابل 78% لليهود، ثم أصبحت مصادرة الأرض وهدم المنازل وسحب الهويات وقوانين التنظيم والبناء والمناطق الخضراء؛ جزءاً مهما وتكتيكياً للسيطرة على الأرض والسكان.
زراعة المفاهيم التلمودية العنصرية في عقول اليهود وأطفالهم منذ نعومة أظفارهم هي مهمة مُقدّسة بالنسبة لهم، وهو ما كان مبدأً أساسيا في محافظة الاحتلال اليهودي على الأغلبية لصالحه في القدس المحتلة بشقيها الشرقي والغربي، بل وتمكن من ممارسة تطهير عرقي داخل البلدة القديمة حيث هدم فيها وحدها قرابة 150 بناية وهجّر سكانها واحتل منازلها كما حدث في قرية بيت صفافا.
هل تعلمون أن الاحتلال الصهيوني عندما أقام جدار الفصل العنصري الذي يمر من أراضي مدينة القدس المحتلة؛ استطاع التخلص من 150.000 فلسطيني، حيث جعلهم خلف الجدار وأصبح وضعهم في مهب الريح وخارج الحسبة التفاوضية؟!
مغفلٌ من يعتقد أن اليهود نائمون في القدس، أو أنهم يمارسون أحلامهم فقط دون أفعال على أرض الواقع. إن اليهود يطبّقون خططا دقيقة وُضعت لهم بحذافيرها من أجل السيطرة الكاملة على مدينة القدس بشقيها الشرقي قبل الغربي، فهم ما يزالون يضمّون المزيد من الكتل الاستيطانية حول القدس وإقامة ما يطلقون عليه (القدس الكبرى) التي تعادل مساحتها 10% من مساحة الضفة الغربية، حيث إنهم يهدفون من وراء ذلك لتحقيق هدف رئيس يتمثل في أن تكون الأغلبية المطلقة يهودية وبنسبة 88% مقابل أقلية عربية تُقدّر بـ 12%، وهكذا يستطيع الاحتلال السيطرة عليها أمنيا واقتصاديا واجتماعيا.
مجنونٌ من يظن أن الاحتلال يقف عند هذا الحد من الاعتداء على مدينة القدس والتمادي في مخططاته والتطاول على المقدسات والمسجد الأقصى خصوصا، بل إنه يستثمر حالة الهوان للأمتين العربية والإسلامية ويواصل مخططاته التهويدية، والتي لم يكن آخرها إقامة الاحتلال كنيسًا يهوديًا تحت المسجد الأقصى.
هذه الصورة السوداوية لواقع مدينة القدس المحتلة لا تعني أنها أصبحت يهودية، إن هذا الكلام غير صحيح وهو مجرد أحلام تراود اليهود، فالقدس كانت وما زالت وستبقى عربية حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وإنهم زائلون لا محالة وقتما تتوفر شروط الخلاص.
إن عاصمتنا الأبدية "القدس" المحتلة ما زالت تنتظر التحرير من هذا الاحتلال اليهودي، وإننا نؤمن بأن التحرير والخلاص لا يمكن عبر المفاوضات الهزيلة ولا بالسلام المزعوم أو التسوية والتصفية للقضية الفلسطينية، بل إن التحرير والخلاص لا يكون إلا عبر فوهة البندقية وأزيز الرصاص وهدير المقاومة، فهذا الاحتلال لا يفهم إلا لغة واحدة وهي القوة.