وفي ظلال السحق الدائم للمعلم، نصرُّ أيضًا أن نخصص له يومًا لتكريمه.. يشق طريقه في هذه الحياة الصعبة، تتقطع أنفاسه وهو ينتظر راتبًا لا يكاد يسد حاجاته الأساسية، بينما يرى بأم عينيه السيارات الفارهة لذوي المقامات العالية تشق طريقها وتمخر الأرض من تحتها، تقف أمام المدرسة لينزل منها أطفال ناعمون مترفون، وكأنهم من عالم آخر يأتي بهم سائقو الذوات.
يقف في خندق المواجهة؛ ليبني جيلًا مطلوبًا منه مواجهة تحديات الواقع الصعب ومواجهة احتلال لا يرحم أحدًا ويعكر كل شيء في الحياة الفلسطينية.. مطلوب منه أن ينتج جيل النصر والتحرير بسلاح العلم والمعرفة والتربية والتعليم.
يجردونه من كل مقومات الإبداع وإخراج أفضل ما عنده بمصادرة حريته وممارسة الضغط عليه من كل جانب: الجانب المعيشي بداية والراتب المسحوق، المناهج التي يتلقاها دون أن يكون له دور أو رأي في إعدادها، ضغط الطالب وأهله الذين ينظرون إليه كما ينظر إلى البقرة الحلوب في إعطاء المعلومات والعلامات دون أن يكون له دور تربوي، فتنشأ مساحة من اليابسة الجافة بينه وبين المتلقي، والمفترض أن يكون له قدوة دون أن يتمكن منها.. فالمعلم مجرد أداة لإيصال العلم المجرد من كل أبعاده التربوية.. أصبح المعلم مجرد حاسوب يلقي على شاشته ما بداخله والطالب مجرد ذاكرة تشحن بالمعلومات ثم العلامات التي ترضي الأهل وإدارة المدرسة والعملية التربوية المنزوعة من القيم والروح وإرادة الحياة والتحرر.
يسحق المعلم في مصانع تعليب المعلومات، يقولب نفسه على مقاس ماكينات التعليب ثم يمضي زهرة شبابه وكهولته وهو يردد ما هو مطلوب منه لينتج جيلا يحفظ ويردد ويصفق طالبا يد الشهادة حيث هي بوابته لسوق العمل، هدف المعلم واضح ومحدد وهدف الطالب أيضًا واضح ومحدد، العلامة والشهادة بعيدًا عن ميادين الحياة العملية أو تشكيل الاتجاهات النفسية المتوازنة أو طرق التفكير العلمية التي تحقق الحياة الناجحة للفرد والمجتمع.
على رواد العلم والتربية أن يدقوا ناقوس الخطر، العملية التربوية في غرفة الإنعاش خاصة وأن أبناءنا يتعرضون لاجتياحات شبكة النت واليوتيوب ومغريات مواقع التواصل التي جعلت العالم مفتوحا لهم وبين أيديهم بحلوه ومره.. بخيره وشره المدمر.. المنتج الغربي قوي ولم نعد نتحدث عن غزو فكري فالأمر اليوم غزو نفسي واجتياح شامل لكل مكونات نفوس أبنائنا، الأفكار والمشاعر بما يسلب اللب والفؤاد.. إن لم نعزز العملية التربوية ويتم تطويرها بما يملأ فراغ أبنائنا، وبما يوفر لهم عملية تربوية شاملة وبأدوات عصرية فاعلة ستضيع منا تربية أبنائنا في غياهب اليوتيوب..
هذا لا بد له من المعلم المبدع.. ولا يمكن إخراج طاقاته الإبداعية إلا بأمرين: الأول توفير العيش الكريم والظروف الحياتية الجيدة، والثاني استدامة تطوير قدرات المعلم وتطوير المنهاج الفلسطيني القادر على إنتاج الجيل الذي نصبو إليه.. وهنا لا بد وأن نذكر بأهمية التربية بكل أبعادها الدينية والوطنية بما يتابع اكتساب المهارات كما يكتسب المعلومات، وإكسابه أيضا العادات الإيجابية وتحريره من العادات السلبية، وإكسابه طرائق التفكير العلمي، وإكسابه الإرادة القوية الفاعلة.. وهذا كله من أجل إنتاج الجيل المنشود.
لا بد من تطوير مهنة التعليم، وهذه تبدأ بإكرام المعلم وإعطائه الوزن الذي يتناسب مع دوره الذي نطالبه به، عندئذ نصل لمن قال: انتصرنا على أعدائنا بالمعلم.