ابتعد "ترامب" عن الواقعية السياسية المستندة إلى القراءة الموضوعية العلمية للواقع، وتغييره للأفضل، فراح يسير بالعالم نحو الشر والحروب الطاحنة، فالواقعية السياسية هي عملية توفيق خلاقة ومعقدة بين متناقضات على ضوء ما هو معلوم وملموس، وتوظف المعرفة في كشف أسرار الواقع واتجاهاته، و"ترامب" أصدر قرارا متهورا دون معرفة ودراسة كافية، ثار العالم عليه، ودون فهم كافٍ لانعكاسات قراره.
جد الجد، بعد قرار "ترامب" ودقت ساعة العمل، بالنسبة لأصحاب الحق، وحان الوقت لاستخدام قوة الحق والخير في دحر الظلم والاحتلال، فالواقعية السياسية عمادها قوة الحق والخير، في التحرر، وهي تقتضي عبور هذه اللحظة التاريخية والمفصلية واستثمارها لتكون وبالا على "ترامب"، ومن بعده "نتنياهو".
ظاهريا وسريعا، يخرج المرء بنتيجة أن أمريكا وكيان الاحتلال، قد سجلوا هدف الفوز في مرمى الشعب الفلسطيني والعرب والمسلمين، لكن المتأمل عميقا في تداعيات القرار على المدى البعيد يخرج بنتيجة غير ذلك.
الواقعية السياسية كاستثمار للقوة الظالمة، نجحت لدى نتنياهو في دفع "ترامب" للإعلان عن قراره، ظنا منه أن الواقع العربي يعيش مرحلة قعر الانهزام والتشرذم، ولن تقوم له قائمة بعد ذلك، وأن الفلسطينيين منقسمون على أنفسهم، وما المصالحة سوى ذر للرماد في العيون.
بعد قرار "ترامب" مستخدما قوته، بنقل السفارة، والاعتراف بالقدس المحتلة كعاصمة لدولة الاحتلال، راح "نتنياهو" يستثمر القرار سريعا في الإعلان عن آلاف الوحدات الاستيطانية، وهو ما اعتبره نصرا له، وللمستوطنين.
تاريخيا كل من استخدم القوة بشكل غير صحيح كان يبتعد عن الفهم الصحيح للواقعية السياسية، فشتان بين قوة ظالمة وقوة خيرة في السير نحو الواقعية السياسية بشكلها الأمثل والصحيح، فالواقعية تقتضي الفهم والإدراك واعمال العقل وتقدير الأمور بشكل دقيق، ومعرفة تداعيات كل قرار قبل اتخاذه، والتعامل مع المستجدات بحكمة، وهذا لم يحصل من قبل "ترامب" الذي استعجل قطف ثمار قوته وغطرسته وعربدة أمريكا على العالم بقرار المتهور.
تجاوز الشعب العربي والإسلامي مرحلة لعن الظلام واللطم؛ فالواقعية السياسة العقلانية لا تعني الاستسلام للقوة الغاشمة، بل تحديها والعمل على تغيير ظروف المرحلة، وخروج المسيرات والمظاهرات على مستوى العالم ككل، يعني بالضرورة حالة متقدة من الوعي لخطورة قرار "ترامب" الظالم .
بالنسبة للفلسطينيين ما دام "ترامب" لا يعترف بصاحب الحق والمظلوم؛ بل فقط بالقوي؛ ومن هنا فان البحث عن مصادر القوة لإحقاق الحق مطلوب على الدوام لمواجهة العنجهية الأمريكية المتغطرسة.
مع قرار "ترامب"؛ ثبت مرة تلو أخرى؛ بأن العالم لا يحترم ولا يقيم وزناً إلا للقوي، والقوي يفرض أجندته ورؤيته للواقع وهي هنا بحسب الرؤية الأمريكية تنفذ على الفلسطينيين الضعفاء الذين يستجدون المؤسسات الدولية والأممية؛ مرة تلو مرة دون جدوى تذكر حتى ألان.
طيلة سنوات "اوسلو"؛ تعاطى فلسطينيون بأن السياسة هي فن الممكن، والاعتراف بالواقع السياسي والتعامل معه كما هو؛ وهو من أوصلهم إلى استخفاف "ترامب" بهم وبالعرب والمسلمين واتخاذ قراره المفصلي في لحظة تاريخية فارقه.
كان من نتاج "اوسلو" أن ظن "ترامب" و"نتنياهو، أن العرب ضعفاء والفلسطينيين يرضوا بالفتات، وسهل هزيمتهم، وهذا ما أوصلتنا إليه قراءة الواقعية السياسة بأنها فن الممكن، فروادها ظنوا انه من الممكن التحرر دون عناء سيال انهار من الدم؛ ودون بذل كل الجهد والعناء وتقديم التضحيات حتى كنس الاحتلال، وكان الدنيا لا تؤخذ غلابا.
لا بأس بالتعامل مع المؤسسات الدولية والأممية لإبطال قرار "ترامب" ووجب التعامل معها ولكن بفهم أعمق؛ ودون وضع كل البيضات في سلة مجلس الأمن والأمم المتحدة، فهناك الكثير ما يمكن فعله وعمله لمن أراد أن ينطلق ولا ينتظر الأحداث أن تدهمه.
الشعب الفلسطيني لديه الطاقات الخلاقة للتحرر وبناء الدولة وهي كثيرة ولا تنضب؛ ومصادر القوة كثيرة غصبا عن الاحتلال؛ إن أحسن وأجيد تفعيلها واستخدامها، أليست الوحدة الوطنية والاتفاق على برنامج وطني موحد عنصر قوة!؟
أكثر ما يخيف نتنياهو؛ هو الحراك العالمي المستمر في المسيرات والمظاهرات، والذي قد يتطور إلى ما هو أكبر من ذلك، وبات يشعر "نتنياهو" أن العرب والمسلمين يريدون تغيير الأمر الواقع والمرير.
أمريكا تتحكم في أكثر مفاصل المجتمع الدولي واستخدام حق النقض الفيتو لإفشال أي قرار ضد الإدارة الأمريكية ورؤيتها، وبالتالي التعويل على المجتمع الدولي ومؤسساته في التحرر؛ أمر يجانب الصواب؛ ولا بد من أن نشمر عن سواعدنا إن أردنا التحرر؛ فلا يحرث الأرض إلا عجولها؛ ولا ننتظر من غيرنا أن يحررنا، على أهمية الدعم وإكثار الأصدقاء والداعمين للقضية، وليس إكثار الأعداء.