فلسطين أون لاين

​مأزق أوروبي بعد قرار ترامب بشأن القدس

خيّم الوجوم على وزراء الخارجية الأوروبيين خلال إفطارهم صباح الاثنين الماضي في بروكسل مع رئيس وزراء حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فقد أدركوا أنّ مشروع "الدولتين" الذي طال التبشير به انهار تماماً.

فما أقدم عليه الرئيس الأميركي دونالد ترامب -في خطابه بـ(6 ديسمبر/كانون الأول)- كان إعلان وفاة ما سُمي "حل الدولتين"، وهو إفاقة متأخرة من "رؤية الرئيس بوش" التي حملت وعداً مغلّظاً بإقامة "دولة فلسطينية قابلة للحياة، تعيش في أمن وسلام إلى جانب دولة (إسرائيل) التي ينبغي ضمان أمنها"، حسب الرواية آنذاك.

لم يلحظ المتابعون أنّ مجلة الإيكونوميست البريطانية خرجت -قبل عشر سنوات تماماً من خطاب ترمب بشأن القدس- بغلاف يحمل صورة جورج بوش الابن مع العنوان المثير: "السيد فلسطين"، والآن يتعيّن على هذه المجلة المرموقة منح غلافها للرئيس ترامب مع عنوان من قبيل "السيد نتنياهو".

فما جرى هو أنّ البيت الأبيض اقترب إلى حد التطابق مع تطلعات نتنياهو بدفن أي فرصة لقيام دولة فلسطينية، ولو شاء نتنياهو القبول بخيار الدولتين لكان قد فعل في عهد بوش الابن أو حتى باراك أوباما، وأقصى ما فعله كان التلفظ به على مضض مرة يتيمة خلال عهد أوباما.

أما الجانب الفلسطيني؛ فعليه الآن أن يأمل الحصول على فتات جغرافي تحت لافتة زائفة قد تحمل اسم "دولة"، ضمن مناطق واقعة خلف الجدران وبين المستوطنات والمواقع الاحتلال العسكرية. إنها دولة الجدران والمعازل التي يستكثرها قادة الاحتلال على الشعب الفلسطيني، والتي هي نسخة رديئة من المعازل السكانية (البانتوستانات) البائدة في جنوب أفريقيا.

سيستدعي هذا أن تستجدي السلطة الفلسطينية التفاوض الماراثوني الذي قد يمتد إلى أمد غير منظور، ولكن هل سيجد الإسرائيليون -حتى ذلك الحين- رئيساً فلسطينياً لديه إخلاص محمود عباس لنهج المفاوضات؟

إنها ورطة للأوروبيين تحديداً، فقد وضع ترمب وزارات الخارجية الأوروبية في مأزق، عندما طوى صفحة قيام دولة فلسطينية تُواصِل البلاغات الأوروبية الإلحاح اللفظي عليها. فما أعلنه الرئيس الأميركي لم يتوقف عند حدود القدس التي منحها لنتنياهو بكل صلف وغطرسة، فقد ظهر ترامب على شاشات العالم لإشهار وفاة "عملية سلام الشرق الأوسط"، التي انطلقت بمدريد 1991 ومرت بأوسلو ومحطات بعدها.

كان ترامب واضحاً في خطابه عندما اتّهم سابقيه في البيت الأبيض بالتقاعس عن الإقدام على ما اجترأ هو عليه، واعتبر إستراتيجياتهم فاشلة وعاجزة. استعمل ترامب كلمة "جديد" في خطابه هذا بشكل متكرر، مؤكداً أنه سيفارق ما كانت عليه الإدارات التي سبقته فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية والشرق الأوسط.

أوحى الرئيس الأميركي بأنه سيترك موضوع التفاوض للطرفين الفلسطيني والإسرائيلي ليُدبّرا أمرهما إن أرادا ذلك، وأنه لن يتدخل للضغط من أجل "حل الدولتين"، بمعنى أنه لن يبذل جهوداً لقيام دولة فلسطينية. فعلى الشعب الفلسطيني أن يتفاهم وحده بالتالي مع نظام يحتل بلاده ويفرض هيمنة عسكرية عليه وألا ينتظر إنصافاً من واشنطن.

نهاية مشروع "الدولتين"

وُضعت النقاط على الحروف؛ فما أعلنه ترامب ليس أقل من نهاية مشروع "الدولتين"، وهو مشروع قال سيد البيت الأبيض الأرعن إنه سيدعمه فقط إن تمسّك به الجانبان الفلسطيني والإسرائيلي. وبهذا فما سيكون بدءاً من الآن هو دولة واحدة فقط تحتل الأخرى، مع احتمال السعي لتحسين مواصفات الكيان الفلسطيني تحت الاحتلال بعد مسارات تفاوضية يهيمن عليها الاحتلال ذاته.

يسود الانزعاج في أوساط صانعي السياسات الخارجية الأوروبية، وهم الذين اعتادوا التبشير بوجود أفق لحل القضية الفلسطينية عبر المفاوضات التي تبقى القدس موضوعاً لها لا يمكن حسمه قبل ذلك. فالأوروبيون معنيون بالحفاظ على رشفة الأمل الأخيرة لعملية التسوية السياسية، لأنّ بديلها في منظورهم "دوامة جديدة من العنف"، كما يأتي عادة.

وقد أعلن وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي -في اجتماعهم الأخير ببروكسل- أنهم لا يدعمون قرار ترامب بإعلان القدس عاصمة للجانب الإسرائيلي، مؤكدين التزام أوروبا الموحدة بمشروع الدولتين. وأعاد الوزراء التذكير بموقف الاتحاد الأوروبي الرافض لاعتبار الأراضي المحتلة سنة 1967 ضمن الحدود الإسرائيلية، وهو ما يشمل شرق القدس والضفة الغربية وقطاع غزة ومرتفعات الجولان.

الرسالة واضحة، لكنّ البلاغات اللفظية لا تكفي وحدها لاحتواء التطور الجسيم الذي أقدمت عليه واشنطن. فأوروبا التي تنادي بما يسمى "حل الدولتين" تدرك الآن انتفاء الإرادة السياسية في البيت الأبيض لهذا الخيار، علاوة على إحباطه من داخله بإقدام واشنطن على حسم مصير القدس التي كان يُفترض أنها موكولة إلى مفاوضات الحل النهائي.

وهذا يفرض على الأوروبيين الآن أن يبادروا بخطوات عملية مستقلة عن شريكهم القابع غربي الأطلسي؛ إن أرادوا تفعيل التفاوض على مشروع "الدولتين" حقاً.

لكنّ أوروبا لم تجرِّب التصرّف في ملف القضية الفلسطينية بشكل مستقل عن الولايات المتحدة، وكل ما قامت به لم يتجاوز جهوداً تحريكية أولية أو مساعي داعمة للموقف الأميركي، علاوة على استئناسها طويلاً بدور المانح المالي لاستحقاقات التسوية.

ثم إنّ أوروبا ليست متماسكة بالكامل بشأن القضية الفلسطينية سوى بعناوين عريضة يخضع تنزيلها لتأويلات متعددة، خاصة إن تعلّق الأمر بضرورة الضغط على الجانب الإسرائيلي لدفعه إلى القبول بتسوية سياسية، وهو ما لم يتحقق حتى الآن. وقد سمحت التباينات الأوروبية بأن تندفع براغ خلف قرار ترامب بشأن القدس، على نحو فجّ له أسبقياته في السياسات التشيكية نحو القضية الفلسطينية.

إن كانت أوروبا ملتزمة حقاً بمشروع "الدولتين"، فإنّ هذا يُلزمها منطقياً بأن تبادر لتعبئة الفراغ الذي أحدثه الرئيس الأميركي بقراره الطائش، وبدون ذلك سيبقى الالتزام الأوروبي مجرد أمنيات لفظية عاجزة. وقد بدأت الأصوات ترتفع خارج أوساط صنع القرار منادية بتعبئة الفراغ الأميركي، وهو ما طالبت به إيميلي ثورنبري وزيرة الخارجية في حكومة الظل العمالية أثناء مداخلة أدلت بها في مجلس العموم البريطاني.

ما هو مؤكد حتى اللحظة أنّ أوروبا ليست مستعدة لإطلاق مسار سياسي بمعزل عن الولايات المتحدة، كما أنّ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيترك تأثيراته النسبية على فرص التحرك المشترك مستقبلاً، رغم أنّ لندن لم تنجرّ خلف موقف واشنطن هذه المرة.

أما الجانب الإسرائيلي فيمنح الانطباع بأنه لا يكترث بأي ضغوط أوروبية كانت؛ فكيف به وقد حاز صك الإعلان الأميركي بتبعية القدس على هذا النحو. لقد تمسّكت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بمواقف متعالية على الجانب الأوروبي، متسلحة بترسانة لفظية لا تستثني التلويح بورقة العداء للسامية واستدعاء الماضي الأوروبي مع اليهود.

أوروبا ضالعة في المآلات

دون تجاهل منسوب الرعونة الطافح في تصرف ترمب نحو القدس؛ يبقى من القسط عدم إعفاء صنّاع السياسات الخارجية الأوروبيين من مسؤولياتهم. فقد كانوا شركاء في بيع الشعب الفلسطيني الأوهام بإمكانية الوصول إلى دولة فلسطينية "قابلة للحياة" بمفاوضات مع قيادة إسرائيلية متصلِّبة لم تشأ أوروبا الضغط عليها. والنتيجة أنّ السلطة الفلسطينية لا تجد اليوم ما تقوله لشعبها بعد أن أقدم راعي التسوية ذاته على حسم النتيجة قبل بدء المباراة.

من القسط الاعتراف بأنّ أوروبا لم تكن جاهزة للتصرّف أو لممارسة ضغوط في حدها الأدنى على الجانب الإسرائيلي، فشاركت بهذا في خنق فرص قيام دولة فلسطينية حتى بتلك المواصفات الشكلية التي يقترحها مشروع "الدولتين".

والنتيجة أنّ "عملية سلام الشرق الأوسط" لم تكن سوى ربع قرن من بيع الأوهام؛ ترافقت مع إدخال القيادة الفلسطينية إلى القفص وابتلاع المفتاح عبر تكبيلها بالتزامات تسيير الحياة اليومية تحت الاحتلال، وتوفير قوت الحياة لمواطنيها من خلال استجداء المانحين.

من مفارقات هذه اللحظة التاريخية أنّ الموقف الأميركي الذي منح القدس للاحتلال الإسرائيلي؛ هو امتداد لمواقف أوروبية كلاسيكية بدأت منذ أن منحت بريطانيا فلسطين للمنظمة الصهيونية حسب إعلان بلفور (1917) بكل ما ترتب عليه من خطوات.

ولم تتبرأ الحكومات البريطانية المتعاقبة من ذلك التصريح الاستثنائي الذي أَسّس لنكبة الشعب الفلسطيني؛ بل قررت حكومة تيريزا ماي الاحتفال به بعد قرن كامل من صدوره. وإن لم يقع التنصّل من ثقافة التأسيس للاحتلال الإسرائيلي وتبريره؛ فستبقى تعبيرات الامتعاض الأوروبي من موقف ترمب من القدس والقضية الفلسطينية انفعالات عاجزة وبلاغات جوفاء.

خلاصة المشهد أنّ الشعب الفلسطيني يقف اليوم بعد إعلان ترامب في منعطف حادّ؛ انقشعت معه وعود التسوية السياسية المتعثرة أساساً، وانهار مشروع "الدولتين" الذي ظل حبراً على ورق، وتلاشت فرص الوصول إلى القدس عبر المفاوضات، وهو ما يفرض التوجه الفلسطيني إلى خيارات جديدة لا تروق لأوروبا.

إنّ انسداد أفق التسوية يعني ببساطة نهاية جدوى السلطة الفلسطينية التي كانت في الأساس خياراً مؤقتاً على طريق الدولة المستقلة؛ وقد بات على السلطة الآن أن تأمل فقط تحسين مواصفات حكمها تحت الاحتلال، دون أي استقلال فعلي أو سيادة في نهاية المطاف.

وسيكون على السلطة الفلسطينية أن تتصرف كنظام أمني صارم في خدمة الأسياد الإسرائيليين الذين يستحوذون على معظم الأرض والموارد والمعابر وموارد القوة العسكرية. وعلى السلطة أن تقمع شعبها وتحظر مقاومته وتكبح انتفاضته وتتهاون مع سلب القدس وتفاقُم الاستيطان.

وتجري في ظلال ذلك لعبة الابتزاز المتكررة للسلطة الفلسطينية، بالتلويح بتقليص الأموال الأميركية الممنوحة لها، كي ترضخ رام الله أو تتألّم إنْ رفضت الانصياع للمفهوم "الجديد" الذي يحمله ترامب.

وبعد أن أعلن ترامب عملياً موتَ عملية السلام وأنهى عهد المفاوضات وأهال التراب على مشروع "الدولتين"؛ فإنه ليس من فرصة للساسة الفلسطينية سوى قلب الطاولة، وأقصر الطرق إلى ذلك هو إقدام قيادة السلطة على الاستقالة الجماعية وإحداث فراغ قيادي مفاجئ، حتى دون اشتراط حل السلطة بالكامل.

سيرى العالم وقتها كيف أنّ ترامب المتهور قد دفع الأوضاع إلى شفير الهاوية، وسيكون على البيت الأبيض بالتالي أن يتحمل عواقب فعله الجسيم، وسيتعيّن على أوروبا أن تراجع مقارباتها العاجزة لحل القضية الفلسطينية.