شرقي القدس بما تضمه من تاريخ هي أهم الغنائم التي وقعت تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلي إبّان احتلالها عام 1967م، امتلكت (إسرائيل) بعد الحرب؛ القدرة على تحقيق مشروعها الخاص بالحفاظ على شرقي القدس في ظل السيادة الإسرائيلية الدائمة، علما أن هذه السيادة غير معترف بها من المجتمع الدولي، لقد احتلت (إسرائيل) شرقي القدس وفي غير حساباتها التراجع عنها مهما كانت الدوافع، بل هي عملت وبكل جهدها قبيل المعركة على ضمان البقاء فيما تحتله من أراضٍ بالتنسيق مع الولايات المتحدة التي أمدتها بالعون السياسي والمادي، وهي أي الولايات المتحدة مدركة تماما بكل أهداف العدوان الإسرائيلي ولذلك فقد أوجدت له التغطية الكاملة.
لم تأل جهداً الإدارات الأمريكية المتعاقبة في دعم دولة الاحتلال، وتمكينها من إحكام سيطرتها على الأراضي العربية المحتلة بما فيها شرقي القدس، فقد أمدتها بالمال والسلاح والقرارات الهامة الحاسمة التي ترد عنها الإدانة والشجب في المحافل الدولية.
لقد أقرت (إسرائيل) قانون أساس في 3/7/1980م بأنّ القدس عاصمة (إسرائيل)، وقامت بعد ذلك بعمل كل ما يلزم لترسيخ هذا القرار سياسياً واقتصادياً حيث حولت نشاطها السياسي لمدينة القدس، وجعلت شرقي القدس مسرحاً لنشاطاتها عامّة.
في عام 1993م وقعت (إسرائيل) ومنظمة التحرير الفلسطينية اتفاقية أوسلو التي تمّ فيها تأجيل ملف القدس للمفاوضات النهائية التي من الممكن أن تسفر عن قيام دولة فلسطينية، إلاّ أنّ ذلك لم يحدث والذي حدث هو جولات من المفاوضات كان نتيجتها فشل في مسيرة السلام وفشل في خيار بنت عليه منظمة التحرير أملاً لأكثر من خمسة وعشرين عاماً.
اليوم وقد اعترفت أمريكا بأنّ القدس موحدة شرقيها وغربيّها كعاصمة لدولة (إسرائيل)، تقرّ بذلك بانتهاء خيار حلّ الدولتين الذي عليه قامت آمال من ذهبوا للمفاوضات باحثين عن الدولة الفلسطينية، وهي توجه لهم رسالة مفادها أنّ خياركم الذي آمنتم به ربع قرن من الزمان، إنما هو ضياع للوقت، لقد أفرغتم أيديكم من خياراتكم العديدة وسرتم في خيار واحد وحيد أوصلكم لهذه النتيجة، واليوم وقد تغير الكثير من الواقع العربي الرسمي الذي يتهافت لإعلان علاقات رسمية مع دولة الاحتلال، فأنتم عاجزون عن أي فعل ذي مغزى يعيد البوصلة ويصلح المسيرة. أمريكا اليوم تعلن انحيازها في قضية صدرت فيها قرارات دولية تعترف بالحق الفلسطيني، وهي تخالف بذلك غالبية دول العالم، ومع ذلك تُقدم على هذه الخطوة دون النظر لعواقبها.
إنّ موقف القيادة الفلسطينية اليوم صعب للغاية، فهي التي سارت في مشروع سلميّ انبنت عليه آمالها وتطلعاتها، وسوقت للشعب الفلسطيني أنّ الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس قاب قوسين أو أدنى، وغفلت عن موازين القوى العالمية الداعمة لدولة الاحتلال والتي لم تلزمه منذ سبعين عاماً على تطبيق قرار واحد صدر لصالح القضية الفلسطينية، لقد تفردت القيادة الفلسطينية بخيارها الوحيد آملة بنتائجه وعليه فقد تخلت عن خيارات أخرى كان من الممكن أن تكون بيدها للمناورة والضغط لتحقيق شيء من أهدافها.
قد ينعكس قرار الرئيس الأمريكي باعترافه بالقدس عاصمة لـ(إسرائيل) على تطور الأحداث، فكما يرى مراقبون للشأن الفلسطيني بأن القيادة الفلسطينية قد تقوم بمراجعة حساباتها، وأنه يتوجب عليها القيام بخطوات سريعة ومباشرة بوقف كافة الإجراءات العقابية تجاه قطاع غزة، والتقدم بصورة واضحة نحو المصالحة وإنهاء كافة مظاهرها. ومن جهة أخرى فمن المتوقع أن تقوم بخطوات لتشكيل قيادة فلسطينية موحدة تصيغ أهداف وطنية متفق عليها للفترة القادمة، وهذا يتطلب منها البحث عن طرق بديلة عن مسيرة خمسة وعشرين عام من التفاوض.
لقد سقطت القدس عام 1967م، ولكنها لم تسقط من قلوب الفلسطينيين، فقد كانت المحرك الأساس لكافة الهبّات والانتفاضات، التي كانت سبباً في هز عروش حكام متخاذلين عن حمايتها، واليوم وقد اتخذت أمريكا قرارها لم تدرك جيداً حجم الشعب الفلسطيني لا بنضاله ولا بثباته على أرضه، ولم تعلم أن رسوخه وتشبثه في حقوقه كانت وما زالت سبباً في إعاقة المشروع الصهيوني من تحقيق أهدافه منذ مئة عام.