قبل بعثة رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) كان العَالمُ غارقًا في ظُلمٍ وظُلمات إلى درجة أن الإنسان إذا أخرج يده لم يكد يراها، كان يتقاسمه دولتا الفرس والروم، ويأتي من ورائهما اليونان والهند، أما الفرس فكان يسودها انحطاط ديني وخلقي ليس له مثيل، وأما الروم فقد كانت تسيطر عليها الروح الاستعمارية وكانت منهمكة في خلاف ديني بينها وبين نصارى الشام ومصر، إضافة إلى الانحطاط الأخلاقي والظلم الاقتصادي من كثرة الإتاوات ومضاعفة الضرائب، أما اليونان فكانت غارقة في الخرافات والأساطير الكلامية، وأما الهند فقد أجمع المؤرخون على أن أحط أدوارها ديانة وخلقًا واجتماعًا ذلك العهد الذي يبتدئ من مستهل القرن السادس عشر الميلادي.
أما جزيرة العرب _وإن كانت لا تخلو من بعض مكارم الأخلاق_ فكانت غارقة في ضلال مُبين، حيث وأد البنات خشية العار، وقتل الأولاد خشية الفقر، والاقتتال عشرات السنوات لأتفه الأسباب، وشرب الخمر ولعب الميسر، وتبرّج النساء والاستبضاع (زنا بعلم الزوج)، وانتشار بيوت الخنا وصاحبات الرايات الحُمر، وانحراف العقيدة من الحنيفية الإبراهيمية إلى الشرك وعبادة الأوثان.
من أجل ذلك كله بعث الله سيدنا محمد (صلّى الله عليه وسلّم) رحمة للعالمين، ليخرجهم من الظُلمات إلى النور، قال الله (تعالى): {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}، ووصفه الله (تعالى) بالسراج المُنير، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا}، فهو كالشمس في وضوحها وإشراقها وأهميتها لاستمرار الحياة، حياة القلوب واخضرارها وينعها، ولكنه ليس وهاجًا ذا حرارة تؤذي بل قمرًا في جماله منيرًا في ضيائه يهتدي به كل من سار على دربه ونهج نهجه واستن بسنته.
وقد لخّص رسالة الإسلام ربعي بن عامر لرُستم ملك الفرس فقال: "لقد ابتعثنا الله (تعالى) لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة".
بعثه الله (تعالى) ليُتممَ مكارم الأخلاق، فقد ضرب أروع الأمثلة في التواضع والعفو والحلم والرحمة والكرم والصبر والشجاعة ... بل كان خُلقه القرآن كما قالت السيدة عائشة (رضي الله عنها).
يا أحباب رسول الله، إنَّ الحُبَّ الحقيقي لرسول الله (صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)، والاحتفاء بذكرى مولده الشريف ليسا بإقامة احتفالات وكلمات ومدائح فقط، لكنَّ إحياء ذكرى الحبيب يكون باتباع هديه، وتطبيق سنته، وقراءة سيرته العطرة وتطبيقها واقعًا عمليًّا على أنفسنا وأزواجنا وبناتنا وأولادنا ومؤسساتنا العامة والخاصة، قال الله (تعالى): { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا }.