شلومو أفنيري، شيخ «اليسراويين» الصهاينة، الذي طالما تظاهر بتأييده لـ«حق الفلسطينيين»، وعارض الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة من داخل الكنيست ومن خارجه، وتحدث عن ضرورة إنهاء الاحتلال، وأيد «حل الدولتين»، وصولًا إلى «السلام بين العرب والإسرائيليين»، ظهرت حقيقته الصهيونية التي لم ينكرها يومًا ولم تنطل إلا على عميان، ظهرت جلية في آخر مقال له نشرته صحيفة (هآرتس- 2017/11/24)، وكان مخصصًا للحديث عن قرار الجمعية العامة رقم (181) الصادر بتاريخ 1947/11/29 الخاص بتقسيم فلسطين.
في بداية مقاله، يعتبر أفنيري القرار (181) «الإنجاز البارز للحركة الصهيونية» الذي حظيت فيه «باعتراف مهم بحق الشعب اليهودي بالسيادة والاستقلال في وطنه التاريخي»! ويستدرك: «ولكن هذا القرار كان يرتبط بحبل سري في أساس التقسيم: الاعتراف بحق تقرير المصير لليهود، اقترن بالحق الموازي للسكان العرب في البلاد لإقامة دولة في جزء من الأرض الانتدابية». لكنه يضيف: «حقيقة أن قرار التقسيم لم يحل النزاع بين الحركتين القوميتين تنبع من عدم استعداد العرب للموافقة على قرار التقسيم. موقف دفعهم لشن حرب، ليس ضد (إسرائيل)، بل ضد الأمم المتحدة، وتسبب بالنكبة»! ويكمل: «عدم استعداد الفلسطينيين للاعتراف بالخطأ السياسي والأخلاقي الذي ارتكبوه برفض التقسيم، يشكل الآن أيضًا حجر عثرة في طريق التوصل إلى مصالحة تاريخية بين الحركتين القوميتين»!
كم من المغالطات في فقرة واحدة! أفنيري، الشيوعي القديم، «داعية السلام»، يثبت أنه «يسراوي» لا يختلف عن أعتى المتطرفين الصهاينة، نفس «الرواية الصهيونية»، فيقرر أن فلسطين هي «وطن اليهود التاريخي»، والعرب الفلسطينيون هم «سكان البلاد»، و الحركة الصهيونية «حركة قومية»، وعدم اعتراف العرب والفلسطينيين بقرار التقسيم هو الذي تسبب بالحرب والنكبة. وهو إذ يعترف بالقرار (181)، يتجاهل القرار (194) وحق عودة اللاجئين، ما يسقط عمليًا اعترافه بالقرار الأول. والكذبة الفضائحية في قوله إن «عدم استعداد الفلسطينيين للاعتراف بالخطأ السياسي والأخلاقي الذي ارتكبوه برفض التقسيم يشكل الآن أيضًا حجر عثرة في التوصل إلى مصالحة تاريخية بين الحركتين القوميتين» بعد «اتفاق أوسلو» والاعتراف بـ78% من الأرض ملكية إسرائيلية، وبعد أن وصل ما استولت عليه (إسرائيل) إلى 85% من أرض فلسطين، وسيطرتها على الـ15% الباقية، وبعد كل القوانين العنصرية والإعلانات الصريحة لرئيس الحكومة الإسرائيلية وزعماء الأحزاب الإسرائيلية بأن فلسطين كلها أرض (إسرائيل)!!! بعد ذلك كله مازال الفلسطينيون في رأي أفنيري هم العقبة في طريق التوصل إلى «مصالحة تاريخية»!
ولعله من قبيل النكتة السمجة أن يتساءل المرء عن أي «مصالحة تاريخية» يتحدث أفنيري!! مع ذلك، سنتجاوز هذه السماجة لنسأل أفنيري: هل يوافق الآن على الرجوع إلى قرار التقسيم؟ بل هل يوافق على إخلاء المستوطنات والعودة إلى حدود الخامس من حزيران/يونيو 1967؟ لسنا في حاجة لانتظار جواب من أفنيري، لأنه سبق له ورفض ذلك بحجة أن «الوقائع» تغيرت وصارت تفرض حلولًا أخرى! ومن يريد أن يتأكد يستطيع أن يبحث عن مقالات أفنيري في هذا الخصوص. حتى في أبسط الأمور لا يتردد أفنيري في تحميل الفلسطينيين المسؤولية، فعندما يطالب باستئناف المفاوضات لإنهاء الاحتلال، كما يدعي، يحرص على أن يحمل الجزء الأكبر من مسؤولية عدم استئنافها للجانب الفلسطيني، وهو يقول في واحد من مقالاته: «فالرفض الفلسطيني المسؤول بقدر غير قليل عن انعدام المفاوضات والاتفاق بينهم وبين (إسرائيل)، لا يمكنه أن يشكل ذريعة. صحيح أنه بالأساس بسبب المواقف الفلسطينية يحتمل أن يكون الوضع الحالي، الذي نسيطر فيه حاليًا على سكان محتلين، ولكن الادعاء بأنه بسبب هذا يكون لنا حق في مواصلة السيطرة بلا نهاية على شعب آخر خلافًا لإرادته معناه تجاهل الحقيقة...»! هذا التلاعب المكشوف والمطالبة المراوغة بإنهاء الاحتلال، يصطدمان برفض أفنيري فكرة التخلي عن المستوطنات التي لم تبقَ أرضًا متصلة «لتقرير المصير» أو «تنفيذ الشق الثاني من قرار التقسيم»!
أفنيري وهو يحرص على شرعية (إسرائيل)، يطالب بإعطاء الفلسطينيين «شيئًا» يسميه، ويريدهم أن يسموه «دولة»، لأنه يعتقد أنه «وهم خطر أن تحصل (إسرائيل) على شرعية مواصلة السيطرة على كل أرض (إسرائيل)»! من هذا المنطلق يطالب «بتقسيم البلاد»، لأنه يرى أن «من يرفض تقسيم البلاد وحل الدولتين يقوم بتشويه شرعية (إسرائيل) والمشروع الصهيوني»!! أفنيري بتنظيراته «لإنهاء الاحتلال وتقسيم البلاد وحل الدولتين» يقوم بدور تضليلي يخدم به الأكثر تطرفًا الذين يريدون فلسطين كلها، والذين أسقطوا قرار التقسيم منذ زمن بعيد، هذا القرار الذي كان بمثابة التمرين العملي الأول للجريمة!