في التاسع والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1947؛ صدر قرار تقسيم فلسطين بين العرب واليهود، وفق لغة القرار. وهذا القرار يفصله عن تصريح بلفور عشرون عاما، ولذلك فإن قرار التقسيم هو الثمرة الطبيعية لتصريح بلفور.
وفي كل عام يحتفل اليهود بهذه المناسبة، بل إن بريطانيا قد أقامت احتفالا رسميا بمناسبة تصريح بلفور، مع واعتزازها بأن هذا التصريح أحد أكبر الجهود البريطانية لإقامة (إسرائيل).
وكان طبيعيا، وقد شتت المشروع الصهيوني العالم العربي، أن تتحدى مشاعر العرب الفلسطينيين؛ انتظارا لفرص استكمال المشروع ووصوله إلى نهايته.
وفي كل ذكرى للتقسيم، تدلي المصادر الإسرائيلية بالمزيد من المعلومات المضللة، وتعلن أن المجتمع الدولي انتصر لفكرة مشروع التقسيم، وأنه قد أثمر بعد عام واحد في قيام (إسرائيل)، وهي تستعد للاحتفال بـ(إسرائيل) الكبرى بعد سنوات قليلة.
المصادر الإسرائيلية هذا العام تؤكد أن مشروع التقسيم ابتدعته بريطانيا، وحظي بموافقة واشنطن وموسكو، وتكونت إرادة سياسية دولية لإنشاء (إسرائيل).
وقد أكد زعماء الصهيونية، منذ أبا إيبان الذي حضر جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة وصدور القرار، بأن قيمة هذا القرار محددة، وهي أنه أول تجسيد للحلم الصهيوني الذي ظل خيالا، وأن جهود (إسرائيل) هي التي ستتولى الحصول على بقية الأراضي الفلسطينية وإخضاع المنطقة.
وأكد أبا إيبان أن هذا المشروع هو أكبر دليل على اعتراف المجتمع الدولي بنظرية (إسرائيل)، وهي أن فلسطين كانت دائما لليهود، وأن الفلسطينيين هم الذين استعمروها، وأن (إسرائيل) تسترد أرض الأجداد. وهذا ما أكده زعماء الحركة الصهيونية جميعا، وأكده نتانياهو أيضا في كلمته في لندن، خلال حضوره الذكرى المئوية لتصريح بلفور، كما أن سلوك (إسرائيل) يقطع باقتناعها بهذه النظرية.
ويترتب على ذلك خمس نتائج أساسية: النتيجة الأولى أن (إسرائيل) تخطط وتنفذ وفق البرامج التي قررتها على امتداد قرن كامل، وتقوم برامج التدريس والإعلام فيها والقضاء والمؤسسات على هذه النظرية، فلم يلتفت المجتمع الدولي، أو لا يريد أن يلتفت، إلى ذلك.
النتيجة الثانية هي أن بريطانيا العظمى تولت إقامة (إسرائيل)، ثم تعهدتها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. وها هو الرئيس ترامب يحقق أمنية الرئيس بوش الابن، وهي انجاز (إسرائيل الكبرى) عام 2020. والمعلوم أن هذا المخطط وضع منذ عقود ويتم تنفيذه في المواعيد المقررة، بل إن (إسرائيل) تحسد نفسها عندما تجد العرب أكثر تقبلا مما توقعت؛ للمشروع.
النتيجة الثالثة أنه يجب أن نحذف من كتب التاريخ الخرافات حول المشروع الصهيوني. فقد كتبه المؤرخون بخيال يرفض الاعتراف بالحقيقة، ولذلك لا بد من إعادة كتابة تاريخ فلسطين بما يتفق مع الحقيقة. ومن هذه الخرافات؛ أن العرب ساندوا الفلسطينيين ضد (إسرائيل)، ومن الخرافات أيضا أن أمريكا كانت تعترض على قرار التقسيم، وأن بريطانيا تنصلت، منه بدليل أنها امتنعت عن التصويت أو اعترضت على قرار التقسيم في الجمعية العامة، وهي مناورة انطلت على المؤرخين العرب.. وغير ذلك من الأساطير.
النتيجة الرابعة هي أن العرب، رغم إدراكهم للحقائق، يزعمون أنهم يصدقون (إسرائيل)، وأنها يمكن أن تقيم سلاما مع الفلسطينيين.. وهي في الواقع تريد إفناءهم، بل إفناء العرق العربي كله. ولذلك، فإن كلمة السلام تنصرف كما قلنا مرارا إلى السلام الإسرائيلي على أساس المعادلة الصفرية، أي تحصل (إسرائيل) على كل شيء مقابل أن يخسر الفلسطينيون كل شيء، ويكسب العرب رضى (إسرائيل) وواشنطن؛ حتى تظل عروشهم على حساب فلسطين.. وهذه حقيقة ساطعة وليست اتهاما لأحد.
النتيجة الخامسة هي أن تقسيم فلسطين أدى بشكل مؤكد إلى تقسيم الأوطان العربية، ولا بد من التأكيد أن لـ(إسرائيل) يدًا في القضاء على العالم العربي، ولا بد أن بعض الشخصيات العربية قد تعاونت معها في ذلك. وهذا يؤكد أن بعض النظم العربية تعيش على حساب الأوطان العربية، وأنها لا تمانع في أن تتواطأ مع المشروع الصهيوني؛ ما دام ذلك يضمن بقاءها.
ويترتب على ذلك، أن الحكام العرب يعارضون، مع (إسرائيل)، الحكم الديمقراطي؛ لأنه يعني نهايتهم ونهاية (إسرائيل). وهذه القاعدة وضحت لنا بمختلف سبل التحليل، ولا سبيل إلى إنكارها أو القفز عليها.
وإذا كانت (إسرائيل) تراهن على ضعف الذاكرة العربية، كما تراهن على تحطيم الأمل عند الأجيال في استعادة الحق الفلسطيني، فإننا نريد أن نؤكد على أن المواطن العربي والفلسطيني لا يجوز أن يستسلم إلى لحظة التردي. فلم يقل أحد الكلمة الأخيرة، ولم يكتب السطر الأخير في تاريخ المنطقة، وليس من حق أحد أن يعتقل حياة الفلسطينيين وفق حالته النفسية أو استعداده للاستسلام.
ولذلك، فإن هذه المقالة تود أن توصي العرب باسترجاع تفاصيل قرار التقسيم وتطوره، ولماذا اتخذت إسرائيل قرار التقسيم سُلما إلى المشروع الصهيوني، وترفض أن تعود إليه، ولماذا سلم العرب بأن ربع مساحة فلسطين تقريبا قد حصلت عليها (إسرائيل) خارج قرار التقسيم، ثم أقر العرب عام 1967 بحق (إسرائيل) في البقاء في حدود الرابع من حزيران/ يونيو 1967، وهو يعني أن مساحة (إسرائيل) يومها وصلت إلى 78 في المئة من مساحة فلسطين التاريخية. ولكن مهما فعلت (إسرائيل)، فإن الهاجس الأكبر لها دائما هو أنها كيان مزروع على أرض الغير، وأنها تبني على ملك غيرها، وأن المنطقة العربية سوف تشهد انتفاضة كبرى ضد المشروع الصهيوني وعملائه. والفضل في ذلك لإحياء الذاكرة العربية والمحافظة عليها، وتوارث الوصايا بين الأجيال، واستمرار شعلة الأمل وجذوته حية مهما كانت الانكسارات.
في ذكرى التقسيم يجب شرحه للأجيال باعتباره محطة أساسية في المشروع على الأرض. وإذا كان التقسيم قد رفضه العرب، فقد كان ذلك موقفا صحيحا، وليس كما يردد المرجفون، وهذا التقسيم هو الذي سبق مباشرة إعلان قيام (إسرائيل) بعد شهور قليلة من قرار التقسيم. لكن جهود (إسرائيل) نجحت في إبرام صفقة السلام مصر، والتي اعتبرها وزير خارجية (إسرائيل) الميلاد الثاني لـ(إسرائيل)، والتي قدمت الضمان لوصولها إلى غاية المشروع وتفتيت العالم العربي.