فلسطين أون لاين

إقصاء غزة عن الموازنة

لم يكن إقصاء المحافظات الجنوبية من الوطن، عن موازنة عباس، أمراً خافياً أو يحتاج إلى وثيقة أو رسالة مسربة لكي نستدل عليه. فقبل أن يبدأ عام 2017 لم يكن قد تبقى لغزة في موازنة السلطة، سوى بقايا رواتب موظفين تابعين لها. والموظفون لا يُشار إليهم في موازنات الشعوب والدول، بالمفردات المناطقية وإنما بمؤسساتهم. أما بالنسبة للموظفين من غزة، فقد جرى تمحيص كشوفات العاملين في المؤسسات، لكي يجري تنميطهم، وتلك واحدة من ممارسات العار الذي يغرق فيه الضالون. وفي الحقيقة، لم يجر إقصاء الموظفين القاطنين في غزة وحسب؛ وإنما جرى إقصاء الموظفين الغزيين القاطنين في الضفة ويعملون في مؤسساتهم. وحتى جهاز المخابرات، الذي يوجد في مقره ضباط موالون، من غزة لكنهم يقطنون في رام الله، جرى الزامهم بيوتهم، أو أقعدوا، على خلفية مسقط الرأس، في واحدة أخرى من ممارسات العار، حتى أصبح شرط تولي المسؤولية، عن إدارة غزة نفسها، في الجهاز، أن يكون مسقط رأس المسؤول في غير غزة!

كثيرة هي الممارسات التي تدل على أن من يزعمون الرغبة في المصالحة، لا يريدون لفتح الموالية أن تتصالح مع نفسها، فما بالنا بفتح التي تعترض أو حماس التي خاصمت وأطاحت السلطة في غزة. فهذه الممارسات تشمل كل جوانب السلوك السلطوي الراهن حيال غزة، وليس ذلك عن جهالة أو عن محض التقصد وتغذية النعرات المناطقية. فهؤلاء، يلتزمون مخطط تبديد المشروع الوطني الفلسطيني، الضامن لوحدة الشعب وللوحدة التمامية للأراضي الفلسطينية، لكي يعللوا فشلهم بتنافر المناطق، لذا تراهم يروجون همساً لثقافة التنافر المناطقي، بينما الوطنيون لا يفرّقون بين منطقة وأخرى. فالمناطق أخت المناطق، ولطالما استشهد أبطال من الخليل وجنين ونابلس وغيرها، في ردود أفعال للمقاومة، على جرائم اقترفها العدو في جباليا وخان يونس ورفح وغيرها، والعكس صحيح!

مسممو المُناخات الاجتماعية والوطنية، يتوافرون على سلطة، لا تستحي من المجاهرة بأنها تُعاقب غزة. وفي سياق هذه الممارسة البذيئة، تُشطب غزة من مفردات الموازنة للعام المقبل، مثلما شُطبت في الأعوام السوداء المنصرمة. وربما حدث الشطب الأول، ابتهاجاً بمليونية يناير 2013 في غزة التي جعلت عباس يخطب كما لو إنه في حجم جمال عبد الناصر. أما الشطب اللاحق، فلعله من نوع الابتهاج الساخر، من الحشود الغفيرة التي احتشدث يوم 11 نوفمبر في ساحة السرايا لكي يعاود عباس الهدير، ويقول للحشود إنكم لا تزالون مُعاقبين على لا ذنوب!

عباس هذا، وبصرف النظر عن سياقات فساد أخرى، يصرف من المال الفلسطيني، بذريعة مقر الرئاسة، حسب المسجل في موازنة العام المنصرم 112 مليون ومائة ألف شيقل في السنة، تُعللها الموازنة بثلاثة برامج قائمة ولا تقعد أو تنتهي، الأول وهو برنامج التطوير الإداري، الذي يتكلف 37 مليون وخمسين ألف شيكل في السنة، وهدفه، حسب منطوق الموازنة "الوصول بالرئاسة الى موقعها الريادي، وضمن ذلك كُلفة المراسيم، والدعم الاستشاري ذو المستوى العالي، وزيادة التدريب والمعدات لملائمة المتغيرات، وتعزيز حصة الطعام لكل عضو من أمن الرئاسة، ورفع مستوى الأتمتة وبرامج الكومبيوتر" وغير ذلك من العناوين!

أما البرنامج الثاني، فهو لإعلام الرئاسة، الذي تخصص له الموازنة 12 مليون وخمسة آلاف شيقل. لكن التسمية العجيبة للبرنامج الثالث، التي تفوح منها رائحة كلب ميت، فهي "موظفون غير موزعين على برامج" ولهؤلاء الأشباح، تخصص الموازنة 17 مليون و 208 آلاف شيقل سنوياً!

ربما نلتمس عُذراً لتكرار بند الوصول بالرئاسة الى موقعها الريادي، في موازنة كل سنة عباسية، بحكم أن الريادة قد استعصت تماماً، والرجل لم يصل ولن يصل، لذا يتوجب التكرار.

بخلاف ذلك، هناك أموال تصرف سنوياً، بموجب الموازنة، على هيئات وعناوين لا تعمل، بل إن موظفي هذه الهيئات، أطول قعوداً من قعود موظفي غزة الذين أسموهم المستنكفين بتعليمات الرئاسة. لا نرغب في ذكر هذه الهيئات والأطر، لأنها أولاً وأخيراً ربما تتعلق بخبز أسر، ما لم يكن معظم القاعدين، يمارسون أعمالاً أخرى. ثم إن بعض الهيئات، تتطاول موازناتها دونما حاجة، كديوان قاضي القضاة مثلاً، الذي خَصصت له الموازنة الذكية التي تشطب غزة 18 مليوناً و 749 ألف شيقل، بينما القاضي المسلم الأول في تاريخ فلسطين، وهو الصحابي الجليل عُبادة بن الصامت، كان يقضي في الناس بعد صلاة العشاء، على ضوء فتيلة مشبعة بالدهن، وعندما ينتهي، يستجمع كل هواء قفصه الصدري وينفخ في الفتيلة لإطفائها قائلاً ما معناه، لا يحق لنا السهر والمجالسة، بالإضاءة على حساب مال المسلمين!

أما السفارات، التي نعرف كيف وكم ولماذا ضخ عباس اليها في سنوات حكمه، عناصر تضر ولا تنفع وتنغّص على الديبلوماسيين الفعالين؛ فإنها تغترف سنوياً من مال شعب فلسطين 242 مليون و 675 ألفاً و 572 شيقلا.

ليَشطبن عباس غزة من موازنته، لعل الشطب يعزز الوعي الجمعي بالمصيبة، مثلما تُعزز موازنته طعام الجنود في "المقاطعة" إن كان هؤلاء الجنود يأكلون أصلاً في مقر عملهم!