لا يمكن عزل سياق التصعيد الأمريكي تجاه السلطة الفلسطينية ومعها منظمة التحرير، بعد إغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن، والشروط التي وضعتها لإعادة السماح بعمله ضمن مهلة 90 يومًا، عن سياق عملية ابتزاز "بسيطة" لإحداث تحول في الموقف الفلسطيني "المتوجس" من "صفقة القرن"، التي يعتزم ترامب تقديمها إلى العالم مع مطلع العام المقبل.
أطراف عربية تنخرط في محاولات الابتزاز الجارية لقبول السلطة ما يسمى "الحل الإقليمي"، الذي يُعمل على بلورة صيغته النهائية، ويرمي في نهاية المطاف إلى تكوين حلف واحد يجمع دولًا عربية مع الكيان العبري، وهو ما يثير تخوفات فلسطينية عدة ترجمت بمطالبة للإدارة الأميركية بإعادة النظر في خياراتها والتحذير من عواقب هذه الخطوة.
الذريعة الأمريكية التي قدمت مكتوبة تفيد أن سبب عدم التمديد لبقاء المكتب مفتوحًا هو خطاب محمود عباس بالأمم المتحدة في أيلول (سبتمبر) الماضي، الذي دعا فيه المحكمة الجنائية الدولية إلى متابعة وملاحقة الانتهاكات الإسرائيلية وغيرها، لكن الواضح أن إغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن مرتبط بابتزاز أمريكي وعربي لإرغام الفلسطينيين على القبول بحل إقليمي.
مفاد هذا الحل هو وجود حلف لدول عربية سنية ضد إيران، يكون الكيان العبري حليفًا به، ويكون العدو هو إيران، والمطلوب أن توافق القيادة الفلسطينية على حل القضية الفلسطينية ضمن هذا الحل الإقليمي مقابل مساعدات مالية عربية كبيرة وتسهيلات اقتصادية إسرائيلية أمريكية، لكن من دون إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967م وإنهاء الاستيطان.
عادة يخبر الفلسطينيون بطلب تجديد فتح مكتب المنظمة في واشنطن، لكن هذه المرة لم يخبروا إلا بعد مرور الوقت، إذ إنه حسب العرف الدبلوماسي إذا وجدت مشكلة يجرى الاتصال للإخبار بوجود مشكلة وكيفية حلها والتعاون عليها، لكن الأميركيين لم يخبروا الفلسطينيين بأي شيء، وانتظروا إلى اليوم التالي.
حيثيات فتح مكتب لمنظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن تعود إلى بعد توقيع اتفاق المبادئ في عام 1993م، حينها كان المكتب تمثيليًّا، ولم يكن يحمل صفة دبلوماسية، وقبلها كان مكتبًا إعلاميًّا فقط مرتبطًا بالجامعة العربية، إلى حين بدء الحوار مع منظمة التحرير في عام 1988م، ورفع العلم الفلسطيني على مقر مكتب منظمة التحرير في واشنطن أول مرة في عام 2011م في عهد الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، فأصبح المكتب شبه رسمي، لكن دون صلاحيات دبلوماسية.
وبقي مكتب المنظمة بعد عام 1993م إلى غاية الآن خاضعًا لقرار الكونغرس الأمريكي، الذي أقر قانونًا في عام 1988م يضع فيه منظمة التحرير على لائحة المنظمات الإرهابية، وفي الوقت نفسه يحق للرئيس الأمريكي أن يوقع تجميد العمل بقرار الكونغرس، ويمدد وجود مكتب منظمة التحرير كل ستة أشهر.
عام 2015م بعد انضمام الفلسطينيين إلى ميثاق معاهدة روما والمحكمة الجنائية أضاف الكونغرس إلى القانون فقرة تفيد أنه "من غير المسموح للفلسطينيين دعم أو مساعدة أو تقديم أي تحرك تجاه محكمة الجنائية الدولية، أو أي جهد يؤدي إلى ملاحقة (إسرائيل) قضائيًّا أو أي من الأفراد الإسرائيليين"، الأمر الذي استغلته إدارة ترامب لعدم التجديد للمكتب.
الإدارة الأمريكية أمهلت المنظمة مدة 90 يومًا قبل إغلاق مكتبها في واشنطن، وألا يمارس المكتب أنشطته خلال تلك المدة، "شريطة الدخول في عملية تفاوضية ثنائية مع (إسرائيل) تكون ذات معنى"، فما المغزى من هذا الشرط "المضحك" ما دام لا توجد مبادرة أمريكية أو أية مفاوضات؟
المبعوثان الأمريكيان جيسون غرينبلات وجارد كوشنر طلبا من محمود عباس في آخر لقاء له معهما عدة أسابيع حتى تبلور الإدارة الأمريكية رؤية واضحة لعملية "السلام"، وكان عباس "متفهمًا"، إذ أخبرهما أنه يمهلهما إلى نهاية العام، لكن حتى الآن لم تقدم الإدارة الأمريكية أي شيء يتعلق بـ"السلام" أو رؤية الحل.
رسالة الخارجية الأمريكية لا تساهم في خلق أجواء ومناخات إيجابية لإنجاح جهود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لاستئناف المفاوضات بين الجانبين، وتعكس في الوقت نفسه قراءة غير واقعية لحقائق الصراع وما يدور على أرض الواقع.
إغلاق مكتب بعثة منظمة التحرير بواشنطن ما هو إلا تأكيد سياسة ثابتة ومعادية طالما اعتمدتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة ضد الشعب الفلسطيني وحقوقه، وتعبير عن الدعم المطلق والمتواصل للكيان الإسرائيلي الذي يتمسك بسياسته الإجلائية المتناقضة مع قرارات الشرعية الدولية، وبجرائمه المتواصلة التي تنتهك القوانين والمواثيق والمعاهدات الدولية.
المطلوب مواجهة هذه السياسة العدوانية الأمريكية الجديدة، وعدم الرضوخ للضغوط التي تمارسها الإدارة الأمريكية، وقطع الأوهام والرهانات على أي دورٍ محايد لها تجاه الصراع الفلسطيني والعربي الإسرائيلي.
قرار الإدارة الأمريكية يمثل تشجيعًا لحكومة الاحتلال على الاستمرار بسياسة الاستيطان، وهو ما يضع علامة استفهام كبيرة على الدور الأمريكي اللاحق (رعاية العملية السياسية)، لكنه في الوقت نفسه يثير التساؤلات عن دور بعض الأشقاء في تحريك ملفات صغيرة، وممارسة الضغط رويدًا رويدًا، مع اقتراب موعد إعلان "صفقة القرن"، التي ما عاد الحديث عنها يدور في أروقة الإعلام فحسب.