مع كل منخفض جوي يضرب قطاع غزة، تتكشف معاناة إضافية تعيشها النساء داخل الخيام والمنازل المدمّرة، حيث تتحول أبسط الأعمال المنزلية إلى عبءٍ يومي ثقيل، يرهق الجسد ويستنزف النفس.
فالرياح العاتية، والأمطار الغزيرة، والانخفاض الحاد في درجات الحرارة، لا تأتي منفردة، بل تتقاطع مع واقع إنساني قاسٍ فرضته حرب الإبادة الجماعية التي يشنّها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة منذ عامين، وما خلّفته من دمار واسع ونزوح جماعي وحرمان من أبسط مقومات الحياة.
في ظل هذا الواقع، تجد النساء أنفسهن في مواجهة مفتوحة مع البرد والجوع والرطوبة، مطالبات بإدارة شؤون الأسرة وتأمين الطعام والنظافة والرعاية، وسط غياب شبه كامل للأدوات والخدمات الأساسية.
لم تعد الأعمال المنزلية تفاصيل يومية عادية، بل تحوّلت إلى معركة حقيقية تتضاعف قسوتها خلال المنخفضات الجوية، حيث تتقاطع قسوة الطقس مع نتائج الحرب والحصار.
نار لا تشتعل
في مخيم برشلونة جنوب مدينة غزة، تجلس رفيدة ناجي (42 عامًا) أمام موقد بدائي صنعته من حجارة متفرقة وقطعة حديد قديمة، تحاول إشعال النار لإعداد وجبة بسيطة لأطفالها.
غير أن الرياح القوية لا تمنحها فرصة؛ فكلما اشتعل اللهب للحظات، عادت لتطفئه، فيما يرفض الخشب الرطب الذي تجمعه من محيط المخيم الاشتعال.
تقول رفيدة لـ "فلسطين أون لاين": «نقضي ساعات نحاول إشعال النار، وأحيانًا نفشل تمامًا. الأطفال يطلبون طعامًا ساخنًا، ولا أملك سوى إعادة المحاولة».
وتشير إلى أن هذه المعاناة لم تكن جزءًا من حياتها قبل الحرب، حين كان غاز الطهي متوفرًا والكهرباء – رغم انقطاعها المتكرر – تعود بعد ساعات.
اليوم، ومع تدمير البنية التحتية ومنع إدخال الوقود وغاز الطهي، بات إشعال النار تحديًا يوميًا، يرافقه خوف دائم من اندلاع الحرائق أو وقوع الحوادث.
وتضيف: «نخاف من الحريق، لكننا نغامر لأننا لا نملك خيارًا آخر».
وهكذا تحوّلت مهمة إعداد الطعام من واجب منزلي بسيط إلى معركة يومية تخوضها النساء في مواجهة الرياح والبرد ونتائج الحرب.
وعلى بعد أمتار قليلة، تنشغل أم أحمد الزرد (35 عامًا) بغسل ملابس أطفالها في حوض بلاستيكي صغير، مستخدمة ماءً شديد البرودة. لا غسالة، ولا ماء ساخن، ولا حتى كمية كافية من الصابون.
تنحني لساعات، فيما ترتجف يداها من شدة البرد، وتقول لـ"فلسطين أون لاين": «أشعر أن يديّ تتجمدان، وأعاني آلامًا في المفاصل والظهر، لكن لا أستطيع التوقف».
توضح أم أحمد أن المنخفضات الجوية فاقمت معاناتها الصحية، إذ باتت تعاني نوبات برد متكررة وآلامًا مزمنة في المفاصل، لكنها مضطرة للاستمرار في غسل الملابس بسبب قلة المتوفر منها، وانتشار الرطوبة داخل الخيام، ما يجعل تأجيل الغسيل خيارًا غير ممكن.
قبل الحرب، كانت تغسل الملابس في منزلها باستخدام الغسالة والماء الساخن، ولم تكن تتخيل أن الغسيل قد يتحول يومًا إلى سبب مباشر للمرض.
«الحرب سرقت منا كل شيء، حتى صحتنا»، تقول، مشيرة إلى أن النساء يتحملن العبء الأكبر في ظل غياب أي بدائل أو خدمات تخفف من وطأة هذه الأعمال.
أمومة تحت المطر
أما سمر الغف (29 عامًا)، وهي أم لطفلين صغيرين، فتعيش معاناة مختلفة لا تقل قسوة. مع كل منخفض جوي، يبدأ قلقها قبل هطول المطر.
داخل خيمة مهترئة لا تقي من البرد ولا تمنع تسرب المياه، تحاول سمر إبقاء طفليها دافئين وجافين، بينما تتحول أرضية الخيمة إلى طين، وتتسرب المياه من السقف.
تقول لـ"فلسطين أون لاين": «أمضي الليل ساهرة، أغيّر أماكن الفرش، وأحمل الأطفال من زاوية إلى أخرى هربًا من الماء».
الخوف الأكبر، كما تشير، هو إصابة طفليها بالأمراض في ظل ضعف المناعة وغياب الرعاية الصحية.
«أخاف أن يمرضوا، ولا أستطيع وعدهم بشيء أفضل»، تضيف بصوت يختلط فيه التعب بالقلق.
ولا تتوقف معاناة سمر عند حدود العمل المنزلي، بل تمتد إلى ضغط نفسي دائم؛ فالأمومة في زمن الحرب تعني اليقظة المستمرة، وتحمل مسؤولية مضاعفة في ظروف تفتقر إلى أبسط مقومات الأمان والخصوصية.
وتجمع الحالات الثلاث على أن هذه المعاناة لم تكن لتبلغ هذا الحد لولا حرب الإبادة الجماعية المستمرة منذ عامين، والتي دمّر خلالها الاحتلال الإسرائيلي المنازل، وشرّد العائلات، وحرَم النساء من الأدوات الأساسية التي كانت تخفف عنهن أعباء الحياة اليومية.
فالمنخفضات الجوية، رغم قسوتها، تتحول في غزة إلى مرآة لواقع إنساني أشد قسوة، حيث تتضاعف الأعباء على النساء في ظل غياب الحماية والمساندة.
في غزة، تقف النساء في الصف الأول لمواجهة البرد والجوع والرطوبة، يحاولن حماية أسرهن بما تيسّر من وسائل، ويدفعن ثمن حرب لم يخترنها، لكنهن يواجهنها بصبر وقوة.
ومع كل منخفض جوي جديد، تتجدد معاناتهن بصمت، وتتعاظم الحاجة إلى تحرك إنساني حقيقي يضع حدًا لهذه الحرب، ويعيد للنساء حقهن في حياة كريمة، خالية من هذا العبء اليومي القاسي.

