بجوار أحد المطابخ المجتمعية يعيش النازح أحمد هَنا (42 عاما) داخل خيمة قماشية تكسوها شوادر بلاستيكية لا تقي كثيرا من مياه الأمطار، يترقب أطفالها بدء توزيع الطعام على المنتظرين منذ ساعات الصباح.
بالكاد استطاع الأب لخمسة أطفال إسكات صراخ أطفاله صباحا بعدد قليل من الأرغفة الفارغة إلى حين الحصول على الطعام من ذاك المطبخ الذي يقدم وجبات الطعام اليومية لآلاف النازحين في مخيمات الإيواء داخل مخيم النصيرات.
لا يستطيع النازح من حي الشجاعية شرق مدينة غزة العودة لمدينته أو الانتقال إلى أقرب مكان لحيه المدمر؛ لسبب واحد: خشية عدم حصول أسرته على الطعام اليومي. وفق حديثه لـ "فلسطين أون لاين".
يقول: "أنا لا أتحدث عن تنوع غذائي.. أنا أبحث عن وجبة واحدة".
لم يفقد "هنا" منزل عائلته الذي دمره جيش الاحتلال خلال عملياته البرية المتكررة على حي الشجاعية بل فقد أيضا عمله كـ"آذن" في أحد المدارس التعليمية الخاصة التي دمرها الاحتلال أيضا خلال حرب الإبادة.
رغم دخول اتفاق وقف إطلاق النار في 10 أكتوبر/ تشرين أول الماضي حيز التنفيذ إلا أن مظاهر المجاعة بين المواطنين وانتشار حالات سوء التغذية بين الأطفال لا زالت قائمة.
تجمع وكالات الأمم المتحدة أن هناك تحسن ملحوظ في وصول الغذاء، لكنها لا تتوقف عند تحذيرات متكررة: "ما تحقق هشّ وقابل للانهيار في أي لحظة".
في كانون الأول/ديسمبر الجاري، أعلنت مبادرة التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC) أن المجاعة لم تعد قائمة في القطاع، بعد تحسن وصول الإمدادات الغذائية الإنسانية والتجارية عقب وقف إطلاق النار.
لكن المرصد نفسه حذّر من أن الوضع "قابل للانهيار عند أول اختبار سياسي، وأن أسوأ السيناريوهات، تجدد القتال أو توقف تدفق المساعدات، قد يدفع القطاع بأكمله إلى المجاعة" حتى منتصف نيسان/أبريل 2026. وبعبارة أخرى، لم تُحلّ الأزمة، بل جرى تثبيتها عند الحد الأدنى للبقاء.
وراء هذا التقرير تصطف أرقام ثقيلة ومفزعة داخل غزة التي تعيش حرب إبادة إسرائيلية منذ أزيد عن عامين، إذ حصدت المجاعة مارس/ آذار حتى ديسمبر/ كانون أول أرواح ما لا يقل عن 457 مواطنا نتيجة المجاعة وسوء التغذية من بينهم 165 طفلا نتيجة الغذاء الحاد.
بحسب تقرير (IPC) الأخير يواجه ما لا يقل عن 1.6 مليون شخص أي نحو 77% من سكان غزة مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد، كما يواجه أكثر من 100 ألف طفل، و37 ألف امرأة حامل ومرضعة خطر سوء التغذية الحاد حتى نيسان/أبريل المقبل.
حذّرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) من أن الأمهات اللائي يعانين من سوء التغذية في غزة يلدن الآن أطفالا ناقصي الوزن أو مبتسرين، يموتون في وحدات العناية المركزة أو يكافحون للبقاء على قيد الحياة وهم يعانون من سوء تغذية حاد أو مضاعفات طبية محتملة مدى الحياة.
منظمة أطباء بلا حدود تحذر أيضا من أن أسابيع قليلة من سوء التغذية قد تترك آثارًا دائمة على التطور الجسدي والعقلي للأطفال، وتزيد من مخاطر الأمراض المزمنة مستقبلا في قطاع لا يعمل فيه سوى نصف المرافق الصحية جزئيا.
في المقابل، تقول وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" إن سلطات الاحتلال ما زالت تمنعنا من إيصال المساعدات مباشرة إلى غزة. وأكدت أن لديها مخزون كاف من مستلزمات الإيواء لما يصل إلى 1.3 مليون شخص تم تخزينها مسبقاً خارج القطاع.
ووصفت "أونروا" الوضع الإنساني في غزة بـ"المقلق للغاية، ولا يوجد تحسن على هذا المستوى".
قيود إسرائيلية
بحسب الموظف في القطاع العام رامي أبو سلطان (55 عاما) فإنه بعد عامين من الإبادة الجماعية لا تستطيع أسرته شراء جميع مستلزماتها الغذائية والمعيشية.
يشكو أبو سلطان النازح من مدينة رفح إلى مدينة دير البلح، مرارة النزوح منذ عام ونصف وقسوة المجاعة التي ما زالت مستمرة، يقول: "صحيح أن هناك مواد غذائية في السوق.. لكن أسعارها مرتفعة جدا".
يضيف لـ"فلسطين أون لاين": "أعيش في حاصل برفقة والدي المريض.. الراتب لا يكفي مصاريف معيشية ولا دواء ولا طعام"، واشتكى أيضا من غياب المساعدات الإنسانية على الغزيين رغم اتفاق وقف إطلاق النار.
وتابع: "صحيح أننا خرجنا من المجاعة القاسية.. لكنها لا زالت مستمرة بأشكال مختلفة".
بحسب الاتفاق الذي رعاه الوسطاء مصر وقطر وتركيا تحت إشراف الإدارة الأمريكية فإنه بموجبه سيسمح الاحتلال بإدخال 600 شاحنة مساعدات إنسانية يوميا، لكن تقديرات أممية وحكومية تقدر المعدل الفعلي بين 200-300 شاحنة يوميا غالبيتها شاحنات تجارية.
وفق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) فإن جهود الإغاثة في غزة لم تتمكن من مواكبة حجم الاحتياجات؛ بسبب القيود المستمرة التي تفرضها سلطات الاحتلال بما في ذلك القيود على دخول الإمدادات إلى القطاع.
دمار جميع القطاعات
ومن وجهة نظر، المزارع أحمد المصدر (50 عاما) فإن الدمار الإسرائيلي للقطاعات الإنتاجية داخل غزة وراء حدوث المجاعة المستمرة في القطاع.
وزاد من تفاقم الأزمة الإنسانية والمعيشية، بحسب المصدر، فرض جيش الاحتلال لـ"الخط الأصفر" الذي يحرم المزارعين وأصحاب المشاريع الحيوانية من الوصول إلى أراضيهم لاستصلاحها تمهيدا لإعادة الإنتاج الذاتي.
و"الخط الأصفر" هو خط وهمي عبر عنه جيش الاحتلال عبر وضع "مكعبات صفراء" تلتهم رفح وشرق خان يونس وشرق مخيمات الوسطى وأحياء الزيتون والتفاح وحي الشجاعية إلى جانب بيت لاهيا وبيت حانون شمالا.
ووفقا لتقديرات صادرة عن منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، تضرّر نحو 86% من الأراضي الزراعية في غزة بشكلٍ كبير منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، كما دمرت معظم البيوت البلاستيكية والآبار والحقول والبساتين بصورة شبه كاملة.
وطال الدمار أيضا قطاع الثروة الحيوانية الأبقار والأغنام والدواجن والنحل أيضا التي كانت تشكل مكونا جوهريا في منظومة إنتاج الغذاء في القطاع.
وبسبب أوامر الإخلاء والقيود المفروضة على الحركة، أصبحت أكثر من 90% من الأراضي الزراعية غير متاحة للمزارعين، ولم يتبقَّ سوى 1.5% فقط من أراضي غزة قابلة للزراعة.
وأظهرت صور الأقمار الصناعية أن 71.2% من البيوت البلاستيكية تضرّرت، وأن 82.8% من الآبار الزراعية لحقتها أضرار جسيمة. ووفق تقديرات البنك الدولي الصادرة في شباط/فبراير 2025، تجاوزت الخسائر التي لحقت بقطاع الزراعة ملياري دولار، فيما يحتاج إنعاش هذا القطاع إلى نحو 8.4 مليارات دولار.
كما تسببت الإبادة الإسرائيلية بتدمير 100% من الثروة السمكية نتيجة استهداف الاحتلال لميناء الصيادين ومراكبهم ومنعهم من دخول بحر غزة.
وبالتالي، فإنه مع انهيار الإنتاج المحلي أصبحت غزة تعتمد كليا على المساعدات الإنسانية التي تتحكم في دخولها (إسرائيل) عبر "سياسة التقطير".
وفي ضوء المعطيات السابقة، تدرك مؤسسات الأمم المتحدة أن العودة للمجاعة خطر قائم دون حراك دولي يضمن تأمين وقف فوري لإطلاق النار، ضمان تدفق غير محدود للمساعدات الإنسانية (غذاء، دواء، مأوى)، فتح المعابر، توفير الحماية للمدنيين، خاصة الأطفال، وحماية العاملين الإنسانيين.
وتدعو الأمم المتحدة دائما إلى توسيع نطاق الإغاثة لمواجهة المجاعة وتلبية الاحتياجات الطبية العاجلة، من خلال خطط ميدانية لتقديم الدعم للمتضررين وتجنب الكوارث الإنسانية المتفاقمة في غزة.

