فلسطين أون لاين

تقرير الانهيار الاقتصادي في غزة.. بين الوهم والواقع الهش

...
تقارير أممية تؤكد تضرر 70% من الهياكل الاقتصادية في قطاع غزة
غزة / مريم الشوبكي:

في أعقاب مرور أكثر من عامين على الحرب الإسرائيلية الشاملة على قطاع غزة، تبدو بعض الأنشطة التجارية كأنها تعود تدريجيًا إلى الشوارع المدمَّرة. مقاهٍ صغيرة تعيد فتح أبوابها، ومتاجر متناثرة تبيع بضائع محدودة، وأسواق مؤقتة تجمع الباعة والمشترين في محاولة لاستعادة نبض الحياة اليومية.

يروّج الاحتلال الإسرائيلي لهذه المشاهد بوصفها دليلًا على تعافٍ سريع، مدّعيًا أن الاقتصاد الغزّي يعود إلى طبيعته. غير أن خبراء اقتصاديين يحذّرون من أن هذا «التعافي» المزعوم ليس سوى وهم، يخفي انهيارًا هيكليًا عميقًا يهدد بإطالة أمد الأزمة، إذ بات الاقتصاد قائمًا على نمط «البقاء» لا على النمو الحقيقي.

خلفية الدمار

اندلعت الحرب في أكتوبر/تشرين الأول 2023، وأدّت إلى تدمير واسع النطاق للبنية التحتية الاقتصادية في غزة، بما في ذلك المصانع والمزارع والطرق الرئيسة. ووفقًا لتقرير منظمة التجارة والتنمية التابعة للأمم المتحدة (UNCTAD) الصادر في نوفمبر/تشرين الثاني 2025، بلغت الأضرار المادية في غزة نحو 29.9 مليار دولار، أي ما يعادل ضعف الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للضفة الغربية وقطاع غزة مجتمعين قبل الحرب.

كما تضرر نحو 70% من الهياكل في القطاع بحلول أبريل/نيسان 2025، ما تسبب بشلل شبه تام في القطاعات الإنتاجية، ولا سيما الزراعة والصناعة.

ومع استمرار الحصار وإغلاق المعابر، أصبح الوصول إلى الطاقة والمياه والمواد الخام شبه مستحيل، الأمر الذي دفع رؤوس الأموال المحلية إلى الاستثمار في مشاريع خدمية سريعة ومنخفضة التكلفة. هذه المشاريع، كالمتاجر الصغيرة والخدمات اليومية، لا تحتاج إلى مدخلات خارجية كبيرة، لكنها لا تولّد قيمة مضافة حقيقية، ما يعمّق دائرة الفقر ويعزز الاعتماد على المساعدات الإنسانية.

عمق الأزمة

تشير البيانات الرسمية إلى انهيار اقتصادي غير مسبوق. فبحسب UNCTAD، انخفض الناتج المحلي الإجمالي في غزة بنسبة 83% خلال عام 2024 مقارنة بعام 2023، مع تراجع تراكمي بلغ 86% على مدى عامين (2023–2024). كما هبط نصيب الفرد من الناتج المحلي إلى نحو 161 دولارًا سنويًا فقط، وهو من أدنى المستويات عالميًا، ما محا 22 عامًا من التقدم الاقتصادي وأعاد الاقتصاد إلى مستويات عام 2003.

أما الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني (PCBS)، فيفيد بأن الناتج المحلي الإجمالي لفلسطين ككل انخفض إلى 10.6 مليارات دولار في 2024، بتراجع قدره 28% عن العام السابق. وفي قطاع غزة تحديدًا، ارتفعت معدلات البطالة إلى أكثر من 78%، فيما انخفضت نسبة المشاركة في القوى العاملة إلى 38%، ما يعني أن أعدادًا كبيرة تخلّت عن البحث عن فرص عمل.

كما تراجع الاقتصاد الوطني الفلسطيني إلى 69% من مستواه في عام 2019، مع توقعات بانخفاض إضافي بنسبة 19.6% في عام 2025، وفقًا لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP).

وفيما يتعلق بالقطاع الخدمي، الذي يُروَّج له بوصفه محركًا للتعافي، فقد انكمش بنسبة تصل إلى 76%، رغم أنه كان يشكّل قبل الحرب نحو 54.9% من الناتج المحلي ويستوعب 51.6% من القوى العاملة. ويعتمد هذا القطاع اليوم إلى حد كبير على السوق السوداء، التي لا تغطي سوى 15% من احتياجات السوق الفعلية، ما يؤدي إلى تقلبات حادة في الأسعار واستنزاف الجهود المحلية.

«اقتصاد البقاء»

يصف المحلل الاقتصادي الفلسطيني أحمد أبو قمر الوضع القائم بأنه «تعافٍ وهمي مستمر».

ويقول لصحيفة فلسطين: «نلاحظ عودة واسعة للمشاريع الخدماتية في غزة، وقد يبدو ذلك للوهلة الأولى مؤشرًا على تعافٍ اقتصادي أو حراك إيجابي بعد الدمار، لكن هذه القراءة مضللة وخطيرة إن لم تُفهم في سياقها الحقيقي».

ويتابع موضحًا: «ما يحدث في غزة ليس نهضة اقتصادية، بل تكيف اضطراري مع واقع استثنائي. القطاعات الإنتاجية الحقيقية، كالزراعة والصناعة، مشلولة بالكامل بفعل الحرب والدمار، وانقطاع الطاقة، وغياب المواد الخام، والأهم إغلاق المعابر. في ظل هذا الاختناق، لا يملك أصحاب رؤوس الأموال ترف الاختيار، فيتجهون إلى ما هو سريع ومنخفض التكلفة ولا يحتاج إلى مدخلات خارجية، وهنا تزدهر الخدمات لأنها ببساطة الخيار الممكن الوحيد، لا لأنها الخيار الأفضل».

ويستند أبو قمر إلى الأرقام مؤكدًا: «القطاع الخدمي في غزة شهد انكماشًا حادًا، لكنه ظل العصب الرئيس للاقتصاد خلال سنوات الحصار والحرب. فقبل الحرب كان يشكّل نحو 54.9% من الناتج المحلي ويستوعب أكثر من نصف القوى العاملة (51.6%)، ومع اشتداد الحرب وتدمير البنية التحتية تراجع نشاطه بنحو 76%».

ويصل إلى جوهر التحليل قائلًا: «المشكلة أن هذا النمط من المشاريع لا يصنع اقتصادًا حقيقيًا. نحن أمام ما يمكن تسميته اقتصاد البقاء؛ حيث يدور المال داخل المجتمع دون قيمة مضافة حقيقية، ودون تراكم رأسمالي، ودون فرص عمل مستقرة أو نوعية. عشرات المشاريع المتشابهة تتنافس على طلب ضعيف أصلًا، فتكون النتيجة أرباحًا هشة واستنزافًا للجهد».

ويحذّر في ختام حديثه: «لا أنكر أن لهذه المشاريع دورًا مؤقتًا في التخفيف النسبي من البطالة ومنع الانهيار الكامل، لكنها تصبح مقلقة حين تتحول إلى المسار الوحيد المتاح، وحين نقتنع بأن هذا هو الطريق الطبيعي للاقتصاد».

التحديات المستقبلية

يجمع الخبراء على أن التعافي الحقيقي يتطلب رفع الحصار، وإعادة فتح المعابر، وتوفير دعم دولي فعّال لإعادة بناء القطاعات الإنتاجية. ووفقًا لـUNCTAD، قد تستغرق العودة إلى مستويات ما قبل عام 2023 عقودًا، حتى في حال تدفّق مساعدات كبيرة.

وفي ظل غياب ذلك، سيظل الاقتصاد الغزّي عالقًا في دائرة الاعتماد على المساعدات، مع مخاطر تحوّل عملية إعادة الإعمار إلى فرص استثمارية خارجية، دون ضمان السيادة الاقتصادية الفلسطينية.

في المحصلة، يبقى الواقع في غزة تذكيرًا قاسيًا بأن الاقتصاد لا يمكن أن ينمو تحت الاحتلال والحصار. وما لم تُعالَج الجذور الهيكلية للأزمة، سيواصل «اقتصاد البقاء» إطالة أمد المعاناة، بدلًا من بناء مستقبل اقتصادي مستدام.

المصدر / فلسطين أون لاين