لم يعد الاستيطان الصهيوني في الضفة الغربية والقدس المحتلتين مجرد سياسة توسعية، بل تحول إلى مشروع سيادي مكتمل الأركان، يستند إلى غياب الردع الدولي، وفي مقدمته الغياب الأميركي الذي كان تاريخيا يشكل الحد الأدنى من الكوابح السياسية.
هذا الغياب لا يمكن قراءته بوصفه تراجع اهتمام أو انشغالا ظرفيا، وإنما تحول واعٍ في السلوك السياسي الأميركي، سمح بانتقال الاستيطان من خانة "الإشكال السياسي" إلى خانة "الأمر الواقع" الذي يدار بالصمت.
في هذا المناخ، صدر بيان مشترك عن أربع عشرة دولة غربية يدين موافقة المجلس الوزاري الأمني الإسرائيلي على إنشاء تسع عشرة مستوطنة في الضفة الغربية المحتلة، مطالبا بوقف التوسع الاستيطاني والتراجع عن القرار.
ضمّ البيان دولا مثل بريطانيا وألمانيا وفرنسا وكندا واليابان والنرويج، وأعاد التأكيد على عدم شرعية الاستيطان وفق القانون الدولي، إلا أن غياب الولايات المتحدة عنه شكل الرسالة السياسية الأوضح فيه. فبينما رفعت هذه الدول صوت الإدانة، اختارت واشنطن الصمت، ليس فقط عن البيان، بل عن القرار الاستيطاني ذاته، ما حول الموقف الأوروبي إلى اعتراض أخلاقي معزول، وكرس الفراغ الذي تتحرك فيه إسرائيل بحرية شبه مطلقة.
ومؤخرا، أقرت حكومة الاحتلال خططا غير مسبوقة لتوسيع المستوطنات في الضفة والقدس المحتلتين، في خطوة تعد الأوسع منذ سنوات، إذ صادق المجلس الوزاري الأمني الإسرائيلي على إقامة وشرعنة 19 مستوطنة جديدة في الضفة الغربية، تشمل مواقع جديدة وأخرى كانت قائمة سابقا لكن أعيد الاعتراف بها رسميا.
وفي شرقي القدس المحتلة، أُعلن عن خطة لبناء مستوطنة جديدة، في خطوة تهدف- وفق مراقبين- إلى إحكام السيطرة على محيط شرقي القدس ومنع أي حل سياسي مستقبلي يضمن عاصمة فلسطينية.
هذا التوسع يأتي ضمن خطة أوسع برعاية وزير المالية المتطرف بتسلئيل سموتريتش، الذي أعلن تخصيص مبالغ مالية ضخمة لتعزيز المستوطنات القائمة ونقل موارد جديدة لإنشاء بنى تحتية وخدمات وشبكات طرق تربطها ببعضها، في مسعى لتحويلها إلى تجمعات دائمة وموحدة.
الموقف الأميركي.. من الرفض إلى التواطؤ
بحسب الخبير في الشؤون الأمريكية ماهر عبد القادر، فإن الموقف الأميركي من الاستيطان لم يكن يوما بريئا أو حازما، بل اتسم بازدواجية مزمنة، ترفض الاستيطان نظريا، وتحميه عمليا عبر تعطيل أي أدوات ضغط حقيقية.
هذه الازدواجية سمحت لحكومة الاحتلال الإسرائيلي بفهم الرسالة مبكرا: الإدانات الأميركية لا تتجاوز حدود الخطاب، ولا تترتب عليها أثمان سياسية أو استراتيجية، ما شجع حكومات الاحتلال المتعاقبة على المضي قدما.
ومع مرور الوقت، تآكل حتى هذا الخطاب اللفظي، ليحل محله صمت محسوب، لا يعكس عجزا بقدر ما يعكس قرارا سياسيًا بعدم الاشتباك مع ملف الاستيطان، يقول عبد القادر لصحيفة "فلسطين".
لماذا تخلت واشنطن عن خطوطها الحمراء؟
ويرى الخبير في الشؤون الامريكية، أن أحد الأسباب الجوهرية يتمثل في إعادة ترتيب الأولويات الأميركية عالميا، حيث تراجعت القضية الفلسطينية لصالح صراعات كبرى، واستبعد الاستيطان من قائمة الملفات الضاغطة.
لكن هذا التفسير، رغم وجاهته، لا يبرر الصمت الكامل، بحسب عبد القادر، بل يكشف عن استعداد واشنطن للتضحية بالقانون الدولي عندما يتعارض مع تحالفاتها الاستراتيجية، وفي مقدمتها التحالف غير المشروط مع (إسرائيل).
بهذا المعنى، لم يعد الاستيطان خطا أحمر، بل تفصيلا مزعجا يمكن تجاهله، طالما أنه لا يهدد المصالح الأميركية المباشرة، وفق عبد القادر.
التحولات الداخلية وصعود اليمين
ويشير المحلل السياسي الدكتور حسن الديك، إلى أن التحول في الموقف الأميركي لا ينفصل عن التحولات الداخلية، حيث عزز صعود اليمين المحافظ نفوذ التيارات التي ترى في الاستيطان حقا "تاريخيا" لا قضية تفاوض.
ويضيف، كما لعبت جماعات الضغط المؤيدة لـ(إسرائيل) دورا مركزيا في إعادة صياغة الخطاب السياسي الأميركي، بحيث أصبح أي انتقاد للاستيطان يصور كاستهداف لـ(إسرائيل) ذاتها.
شكلت القدس، وفق تصريح صحفي للديك، النموذج الأوضح لهذا التحول، حيث منح الاعتراف الأميركي بها عاصمة لـ(إسرائيل) دفعة هائلة للاستيطان، ورسخ منطق الحسم الأحادي لقضايا الحل النهائي.
ويضيف، هذا القرار لم يكن معزولا، بل أسهم في إسقاط آخر المحرمات السياسية، وفتح الباب أمام التعامل مع الاستيطان في القدس كسياسة سيادية مشروعة.
ويتابع، منذ ذلك الحين، تراجع أي حديث أميركي جدي عن وقف البناء الاستيطاني في القدس، وحل محله خطاب فضفاض عن "ضبط النفس".
الاستيطان كأداة فرض سيادة
بدوره، يوضح المكتب الوطني للدفاع عن الأراضي ومقاومة الاستيطان، أن الاستيطان لم يعد مجرد بناء وحدات سكنية، بل أداة استراتيجية لفرض سيادة الاحتلال الإسرائيلي على الأرض الفلسطينية.
ويضيف المكتب الوطني في تقرير صدر عنه السبت الفائت، أن شبكات الطرق، والمناطق الصناعية، وربط المستوطنات ببعضها، حولت الاستيطان إلى منظومة متكاملة، تجعل أي انسحاب مستقبلي شبه مستحيل.
ويتابع المكتب الوطني، في مواجهة هذا الواقع، يبدو الصمت الأميركي بمثابة ضوء أخضر لاستكمال المشروع، لا موقفا محايدا.
ووفق الخبراء، يعكس بيان الدول الأربع عشرة فجوة سياسية متزايدة بين أوروبا والولايات المتحدة، حيث لا تزال الأولى متمسكة بخطاب قانوني واضح، رغم محدودية أدواتها.
لكن غياب واشنطن عن هذا الموقف يحول الإدانة الأوروبية إلى فعل رمزي، عاجز عن كبح سياسات مدعومة أميركيا بالصمت والحماية.
الضفة نحو الضم الزاحف
ويحذر تقرير المكتب الوطني من أن استمرار هذا المسار يسرّع عملية الضم الزاحف، خصوصا في المناطق المصنفة "ج"، حيث تبتلع الأرض تحت غطاء التخطيط والبناء.
هذا الواقع يفتت الجغرافيا الفلسطينية، ويقوض أي إمكانية لقيام دولة متواصلة جغرافيا، في ظل غياب أي ضغط أميركي فعال.
وبذلك، يتحول حل الدولتين إلى شعار فارغ، لا سند له على الأرض، بحسب الخبراء.
هل يمكن كسر الصمت الأميركي؟
يرى الديك أن كسر هذا الصمت يتطلب تحويل الاستيطان إلى عبء سياسي على واشنطن، عبر تصعيد دولي منسق وربط المصالح بالمواقف.
لكنه يقول، إن هذا الاحتمال يظل ضعيفا ما لم تتغير الحسابات الداخلية الأميركية، ويعاد الاعتبار للقانون الدولي كمرجعية فعلية لا خطابية.
ووفق الديك وعبد القادر، لا يكمن الخطر فقط في المستوطنات الجديدة، بل في التحول الأميركي الذي شرعن التوسع بالصمت، وترك الأرض الفلسطينية نهبا لمشروع استيطاني يدرك أن غياب واشنطن هو أقوى أشكال الدعم.

