منذ ما يربو على نصف قرن الإدارات الأمريكية دأبت تستخدم القضية الفلسطينية إحدى أهم الأوراق في يدها، بهدف إبقاء نفوذها في المنطقة، ومنع أي دولة أو مجموعة دول من الاقتراب من هذا الملف، وذلك بعد أن سلم العرب ومن بعدهم الفلسطينيون مفتاح الحل للولايات المتحدة.
ومع كل إدارة أمريكية جديدة كانت تخرج لنا خطة أو طبخة سياسية جديدة، دون أن تحدث أي اختراق لحل القضية الفلسطينية، بل على العكس كانت سياسات الولايات المتحدة الأمريكية معروفة بانحيازها السافر إلى الكيان الصهيوني، وتبنيها موقفه في مختلف محطات الصراع، وساهمت في إشعال الفتن والحروب في المنطقة بدلًا من تهدئتها، وليس بعيدًا عنها سلسلة الأزمات التي ضربت المنطقة، التي كان للولايات المتحدة الدور الأبرز في إشعالها وتأييدها، من الحرب الأهلية اللبنانية، والحرب العراقية الإيرانية وإدانتها بسياسة الاحتواء المزدوج، واجتياح لبنان عام 1982م، مرورًا بحرب الكويت، ودعم الكيان العبري في حروبه بالمنطقة، وليس أخيرًا احتلال أفغانستان والعراق، والحرب على الإرهاب، وإشعال الفتن الطائفية والمذهبية والعرقية، فكان لهذه السياسات انعكاساتها على القضية الفلسطينية، وربح صاف للكيان الصهيوني وسياساته العدوانية في المنطقة.
أما المبادرات السياسية الأمريكية فمنذ إدارة "جونسون ونيكسون"، وصولًا إلى إدارة "كارتر" التي في عهدها اخترقت الجبهة العربية، ووقُعت اتفاقية كامب ديفيد؛ دأبت الإدارات الأمريكية منذ ذلك الحين في نشاطها المحموم والمنسجم مع الموقف الإسرائيلي على عرض تصوراتها عن الحل الشامل، الذي يرمي إلى تكريس الكيان قوة إقليمية مركزية ووحيدة في المنطقة، وتعزيز تحالفاته مع بعض الدول الإقليمية التي تدور في فلك الولايات المتحدة.
أما تصوراتها عن حل القضية الفلسطينية فلم تذهب إلى أبعد من الحكم الذاتي، الذي اقترحه "بيغن" على "السادات" في اتفاقيات كامب ديفيد، وهذا هو محور عمل الدبلوماسية الأمريكية منذ ذلك الحين حتى يومنا هذا.
وفي أعقاب الاجتياح العدواني للبنان عام 1982م، وإخراج منظمة التحرير إلى المنافي نشطت إدارة "ريغن" في محاولة فرض حل على الفلسطينيين عبر البوابة الأردنية، والصيغة المطروحة في ذلك الحين التقاسم الوظيفي بين الأردن والكيان العبري، لكن الشعب الفلسطيني أفشل هذا المخطط منذ إعلانه، والتمسك بمنظمة التحرير ممثلًا شرعيًّا ووحيدًا للشعب الفلسطيني، ولم تلبث أن اندلعت الانتفاضة الأولى التي وضعت الكيان في مأزق لينشط وزير خارجية أمريكا في ذلك الحين "جورج شولتز" في جولاته المكوكية بالمنطقة، في محاولة استكشاف إمكانية خلق قيادة محلية بديلة والقبول بالصيغة الأمريكية للحل، لكن تأجج الانتفاضة وتصاعدها أفشلا هذه الإمكانية، لكن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي واندلاع حرب الكويت سنحت الفرصة للأب "بوش" ووزير خارجيته "جيمس بيكر" لشق مسار التسوية، بعد إعلان مؤتمر مدريد لـ"السلام" الذي مهد الطريق أمام مفاوضات العرب _ومنهم الفلسطينيون_ والكيان العبري، التي امتدت أكثر من عامين في واشنطن، دون القدرة على إحداث اختراق، إلى أن ولد اتفاق أوسلو الذي عبّد طريق التسوية التي لا نزال نطوف في حلقتها المفرغة.
لقد ولدت اتفاقيات أوسلو في ولاية "كلينتون" الأولى ووزير خارجيته "وارن كريستوفر"، وجاءت منسجمة تمامًا مع منهج التسوية على الطريقة الأمريكية الذي افتتح في اتفاقيات كامب ديفيد، إذ سارعت هذه الإدارة إلى التقاط هذه الاتفاقية وإدارتها، وتجييش الدعم الإقليمي والدولي لها ورعايتها، ولم تلبث أن وقعّت الأردن اتفاقية "سلام" مع الكيان، وسرعان ما بدأت تنشأ خلافات بين أطراف التسوية، أو معارضة داخلية للتسوية حتى في داخل ما يُسمى المجتمع الصهيوني.
وفي الكيان جاء "نتنياهو" إلى سدة الحكم في أعقاب اغتيال "إسحاق رابين"، وهو لا يعكس ميل الشارع الصهيوني نحو اليمين فحسب، وإنما أيضًا عدم وجود فوارق بين اليمين وما يُسمى اليسار الإسرائيلي بشأن التسوية، وتزامنت حكومة "نتنياهو" وولاية "كلينتون" الثانية ووزيرة خارجيته "مادلين أولبرايت"، إذ أحجمت هذه الإدارة عن ممارسة الضغوط على حكومة "نتنياهو" في أثناء انتفاضة النفق، ومصادرة جبل أبو غنيم في القدس، وإقامة مستوطنة (هارحوما) سنة 1997م، وتبنت الموقف الإسرائيلي.
ولم ينسج خلال هذه المدة سوى اتفاقية "واي ريفر" التي جاءت التفافًا على كل الاتفاقيات الموقعة في أوسلو والقاهرة، ولم يلبث "نتنياهو" أن انقلب على هذه الاتفاقية الجديدة قبل أن يجف حبرها، ولم تحرك الإدارة الأمريكية ساكنًا إلى أن جاء "باراك" الذي اتضح أنه لا يختلف عن "نتنياهو" وأراد كذلك أن يبدأ من جديد.
مرة أخرى لم تتحرك الإدارة الأمريكية، وعادت إلى الضغط على الفلسطينيين والعرب للقبول بتصورات وأفكار هدفها القفز عن تطبيق الاتفاقيات المرحلية، ودمج المرحلي في الاتفاق النهائي، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى اضطرار الطرف الفلسطيني إلى الذهاب إلى مفاوضات "كامب ديفيد الثانية"، حيث وصلت المفاوضات إلى طريق مسدود، ما مهد الطريق إلى اندلاع الانتفاضة الثانية.
وعلينا ألا ننسى أن الكيان استفاد من التسوية إذ كثف نهبه للأراضي الفلسطينية، فزادت نسبة الاستيطان منذ عام 1993م حتى عام 2000م بنسبة 105%، وارتفعت أعداد المستوطنين في الضفة من دون القدس بنسبة 100% من 115 ألف إلى 230 ألف مستوطن، وهو ما يعكس التواطؤ الأمريكي مع المخطط الصهيوني للاستيطان والتسوية.
واندلعت الانتفاضة الثانية عام 2000م تزامنًا مع ولاية "جورج بوش الابن" ووزير خارجيته "كولن باول" وانتخاب "شارون" رئيسًا للحكومة، وتبنت الإدارة الأمريكية موقفه ولم تمارس ضغطها على الكيان للجم عدوانيته، بل راحت تشجعه على التصعيد والإرهاب، واشتدت حينها حدة الهستيريا الأمريكية في تبني سياسات الكيان العدوانية في أعقاب ضربات 11 سبتمبر، التي منحت " شارون" الضوء الأخضر لإعادة احتلال مناطق السلطة وارتكاب المجازر، حتى المبادرة العربية مع كل عيوبها تلقفتها الإدارة الأمريكية ببرود وتبنت مواقف الكيان منها.
أما خطة خريطة الطريق التي اقترحتها الولايات المتحدة فقد كانت رؤية الرئيس "بوش" للحل التي انطلقت منتصف عام 2002م، إذ كانت من المفترض أن تمهد الطريق أمام إقامة دولة فلسطينية مع نهاية عام 2005م، وسجل الكيان 14 تحفظًا على هذه الخطة تشكّل عمليًّا إفراغًا لها من محتواها، وتبنت الولايات المتحدة هذه التحفظات، وعمليًّا لم تكن هذه الخطة سوى استرضاء للعرب وثمن لسكوتهم في التحضير لاحتلال العراق.
لقد أحدث احتلال العراق زلزالًا سياسيًّا لا تزال المنطقة تعاني من ارتداداته، وخرجت علينا تنظيرات "كونداليزا رايس" وزيرة خارجية "بوش" في ولايته الثانية من "شرق أوسط جديد" إلى "الفوضى الخلاقة"، ولم نشهد في هذه الولاية أي حماسة من جانب الولايات المتحدة لتطبيق ما تعهدت به من خطة خريطة الطريق، وخرجت علينا خطة "شارون" لإقامة دولة فلسطينية مؤقتة على مساحة 42% من مساحة الضفة، وهي عمليًّا أقسى ما يمكن للكيان الصهيوني تقديمه للحل النهائي، أما الانسحاب من غزة فقد تبنته الإدارة الأمريكية على أساس أنه جزء من خطة خريطة الطريق.
وفي أعقاب الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006م وما أحرزته من نتائج تبنت الولايات المتحدة موقف الكيان العبري وشروطه للتعاطي مع نتائج هذه الانتخابات، وساهمت في حصار وتجويع الشعب الفلسطيني، ومارست ضغوطها على الفلسطينيين التي أسهمت في الاقتتال الداخلي والانقسام السياسي الذي لا يزال قائمًا.
وفي هذه الأجواء انتهزت الولايات المتحدة الفرصة لفرض التسوية على الفلسطينيين في ظل حالة الضعف والانقسام، ودعت لمفاوضات مكثفة بين الطرفين في "أنابوليس" أواخر 2007م، انتهت بعد عام بالحرب العدوانية على غزة (2008-2009م)، وتزامنت هذه الحرب وولاية "أوباما" الأولى ووزيرة خارجيته "هيلاري كلينتون"، إذ انشغلت الإدارة الأمريكية بمعالجة الأزمة الاقتصادية التي ورثتها عن إدارة "بوش" الثانية، ولم يطل الوقت حتى فاز "بنيامين نتنياهو" بالانتخابات، وعادت التسوية تستنسخ نفسها من جديد.
لم تتمكن إدارة "أوباما" بكل ما حملته من "آمال وسلام" كاذبين بالمنطقة من لجم مشاريع الاستيطان، التي تسارعت في عهد حكومة "نتنياهو".
وانتهت الولاية الأولى لـ"أوباما" وبدأت الولاية الثانية بحرب افتتحها الكيان على غزة في نوفمبر عام 2012م، وفي هذه الولاية الجديدة لـ"أوباما" ووزير خارجيته "جون كيري" اخترعت كل أنواع المفاوضات التجريبية من "المفاوضات الاستكشافية" إلى "المفاوضات غير المباشرة" إلى "المفاوضات شبه المباشرة"، التي بعد فشلها شن الكيان حربه المدمرة الوحشية على غزة عام 2014م.
وفي النهاية يُسدل الستار ببطء وبصمت على كل الآمال السلمية التي بثها "أوباما" طوال ثماني سنوات، لتتسلم الراية إدارة جديدة برعاية الرئيس الأمريكي الجديد المثير للجدل "دونالد ترامب"، الذي خرج إلينا بخطته المعروفة بصفقة القرن، التي لم يعرف أحد بعد مضمونها وخطوطها العريضة.
ومن هنا نتساءل: ما الجديد لدى هذه الإدارة الأمريكية الجديدة التي يرأسها شخصيًّا "دونالد ترامب"؟، وما الذي تغير حتى يتفاءل بعض ويبدأ بالترحيب بها قبل اتضاح معالمها؟، وإذا كانت أية مفاوضات محكومة بموازين القوى ما الذي تغير على صعيدنا الفلسطيني أو العربي لمواجهة هذه الخطة؟
وهذا وقد بدأت ترشح في وسائل الإعلام الصهيونية بعض من ملامح هذه الخطة، ولا يبدو على الكيان العبري القلق أو الانزعاج من إعلانها؛ فكلنا يعلم أن هذه الخطة عُرضت على الكيان قبل إعلانها، بل من المؤكد أنه هو من ساهم في وضعها؛ فهذه الخطة لا تتحدث عن أكثر من حكم ذاتي موسع على أقل من نصف مساحة الضفة دون القدس، ودون عودة اللاجئين، ومع ضم كامل للكتل الاستيطانية، وهو ما يعيدنا إلى المربع الأول، وهو الحكم الذاتي الذي عُرض في "كامب ديفيد الأولى"، ولكن بنسخة ومسميات مختلفة.
وبعد 40 عامًا من مسلسل التسوية تأتي هذه الخطة في إطار الفوضى السائدة في المنطقة، وعلينا أن ننتبه إلى أنها تحمل في طياتها مخاطر كبيرة، وهو ما يذكرنا بخطة خريطة الطريق التي كانت بمنزلة الطعم للعرب والفلسطينيين، وثمنًا لسكوتهم عن احتلال العراق، وغطاءً للنوايا الأمريكية لعدوان جديد على المنطقة، وما الذي يطبخ في البيت الأبيض؟، وما الحرب المرتقبة في المنطقة؟، قد تكون إيران هي المستهدفة هذه المرة، وربما سوريا أو حزب الله.
في كل الأحوال مهما بلغت التقديرات؛ فإن هذه الخطة الجديدة ما هي إلا إعادة إنتاج لحلقة جديدة من مسلسل التسوية، الذي باتت حلقاته متكررة، إذ يتغير الشكل ويبقى المضمون، ولن تلبث هذه الخطة حتى يختفي بريقها، وتذهب إلى مقبرة المبادرات إلى جانب أخواتها، ولكن ليس قبل أن تجري دماء في أنهار المنطقة.