بدأت وزارة الحرب الإسرائيلية في الأيام الأخيرة، في كشف بعض من محاضر جلسات حكومة الاحتلال، في أوج عدوان حزيران 1967 والفترة التالية. بعد إزالة نظام السرية التامة، بمرور 50 عاماً عليها، ولكن الأخطر في ما لم يكشف بعد. إلا أنه يكفينا أن نقرأ ما نشر، لنتأكد من أن مخطط الحركة الصهيونية منذ ظهورها، هو تطهير فلسطين كلها من أصحابها. وحين فشلت في تنفيذ الهدف كلياً، اتبعت سياسات في سعي لتطبيق الهدف، وهذا ما ظهر أيضاً قبل أيام، في تقرير جديد يؤكد عمق التمييز ضد فلسطينيي 48.
وتظهر هذه المعلومات الجديدة، وذاك التقرير، في أوج نقاش يثور من جديد، في صلبه: لماذا فلسطينيو 48 لم يقاوموا الاحتلال الصهيوني في العام 1948؟، أو سؤال: "لماذا قبلتم بالجنسية الإسرائيلية؟"، وهذه قاعدة لكل الأسئلة الأخرى التي تتعلق بطبيعة حياتنا، وشكل تعاملنا مع الحُكم الصهيوني. وكنت قبل عدة أسابيع قد تطرقت إلى هذا الموضوع، ولكن حدثت في الأيام الأخيرة عدة أمور، قبل أن تظهر الوثائق السرية، ما استوجب طرح الأمر مجدداً، من جوانب أخرى داعمة.
في تلك الوثائق السرية، يظهر بوضوح تذمر قادة الصهاينة، مجرمو الحرب، من وجود 400 ألف فلسطيني في غزة، و600 ألف في الضفة والقدس، فهؤلاء عبء على دولة الاحتلال، خاصة إذا تم جمعهم مع 400 ألف فلسطيني آخرين، والمقصود فلسطينيي 48. وفي الوثائق التي نشرت وقرأناها، يظهر الجدل الذي دار بين الوزراء، وتخللته مقترحات لدفع الفلسطينيين على الرحيل. من بينها، ما طرحه رئيس حكومة الاحتلال ليفي أشكول، وهو قطع المياه، أو تخفيفها بدرجة كبيرة، عن قطاع غزة لدفعهم إلى الرحيل، كما تمنى نشوب حرب أخرى، لاستغلالها وطرد كل الفلسطينيين من كل فلسطين التاريخية.
إذا تأملنا فقط في مسألة المياه، سنرى أن هذه هي العقلية القائمة في التعامل مع كل الشعب الفلسطيني في فلسطين التاريخية، بمعنى أيضاً فلسطينيي 48. فقبل ثلاث سنوات، مثلاً، كشف النقاب عن أن حكومة الاحتلال تحسب كميات الأغذية التي تسمح بدخولها إلى قطاع غزة، بناء على كمية الحد الأدنى من السعرات الحرارية، لكل مواطن في القطاع. وتقنين المياه قائم حالياً، في الضفة وقطاع غزة، ناهيك عن باقي البنى التحتية.
وهذه العقلية ذاتها، هي التي تقف في خلفية سياسة التمييز العنصري ضد فلسطينيي 48، ففي الأسبوع المنتهي، صدر تقرير إسرائيلي "رسمي" جديد، يؤكد أن مدخول العائلة من فلسطينيي 48 يعادل 65% من مدخول العائلة اليهودية الإسرائيلية، وهذا انعكاس لحالة الحصار في جميع نواحي الحياة، من المهد الى اللحد.
الأسئلة: لماذا بقيتم؟ أو، لماذا لم تقاوموا الاحتلال؟ أو، لماذا قبلتم الجنسية؟ تُسأل حالياً، وفق الظروف القائمة اليوم، دون أي علاقة بالحقائق التي كانت على الأرض في العام 1948، فمن بقي في مناطق 48، لم يصل إلى 17% من إجمالي الفلسطينيين في تلك المناطق حتى النكبة. وهذه النسبة تحققت فقط بعد أن نجح 19 ألفاً من الفلسطينيين بالعودة مباشرة من دول الجوار، وواجهوا على مدى فترة طويلة مخططات لطردهم مجدداً.
و25% ممن بقوا في الوطن تحولوا إلى مُهجّرين فيه محرومين من الدخول إلى قراهم المدمّرة. ومحاولات الاقتلاع لم تتوقف، فمجزرة كفر قاسم التي أحيينا ذكراها قبل ثلاثة أسابيع، كان من أهدافها الترهيب، والدفع على الهجرة. كل واحد من الفلسطينيين الـ 153 ألفاً، كان يلملم جراحه، ويتلمس طريقه، بهدف البقاء والصمود. وذات الحال كان لدى فلسطينيي الضفة والقطاع أيضاً، ولم يخرج مليون فلسطيني فوراً يحملون البنادق لطرد المحتل، وهذا ليس تذنيباً، ولا تجريحاً، فالحال واحد، ونضالهم وفق ظروفهم، كما نضالنا وفق ظروفنا، مستمر ويربك الصهاينة، رغم كل ما نراه من سوداوية الوضع القائم.
السؤال الذي يجب أن يُسأل اليوم: تخيلوا لو نجحت الصهيونية بتطهير كلي لشعبنا في مناطق 48 في تلك الأيام. والسؤال الثاني، يجب أن يطرحه المتسائلون على ذاتهم، أولئك الذين يتغنون بصمود فلسطينيي 48، وهو: كيف نجح هؤلاء الفلسطينيون بالبقاء، وكيف نجحوا في الحفاظ على هويتهم، وكيف يناضلون حتى اليوم بعناد؟، لعلهم يتوقفون عن حملة تجريح ضد شعب بأسره.