لم يعد معبر رفح مجرد بوابة حدودية جنوب قطاع غزة، بل تحوّل إلى خط فاصل بين الحياة والانتظار، بين الأمل المؤجل والمصير المجهول. خلف بواباته المغلقة، تتكدس حكايات آلاف المواطنين الذين علقت حياتهم قسرا، مرضى ينتظرون رحلة علاج قد تنقذهم، جرحى أنهكتهم الإصابات ونقص الإمكانيات، طلبة ضاعت مواعيد جامعاتهم، وعائلات تفرقت بين غزة والخارج دون أفق واضح للعودة.
بحسب تقديرات صادرة عن وزارة الصحة الفلسطينية، ومؤسسات حقوقية محلية، فإنه لا تتوافر إحصائية دقيقة حول عدد الراغبين بالسفر عبر معبر رفح لحاجة التعليم أو تلقي العلاج أو لم الشمل، لكن تشير المعطيات أن هناك نحو 120 ألف مواطن غادروا غزة منذ اندلاع حرب الإبادة الإسرائيلية في 7 أكتوبر 2023.
وتشير مصادر طبية إلى أن مئات الحالات المصنفة على أنها حرجة فقدت فرصتها في العلاج التخصصي نتيجة الإغلاق المستمر، في وقت تعاني فيه المستشفيات داخل غزة من انهيار شبه كامل في الخدمات الصحية، ما يجعل فتح المعبر ضرورة إنسانية ملحة لا تحتمل التأجيل، وليس مجرد مطلب إجرائي أو سياسي.
انتظار بين الحياة والموت
على سرير ضيق داخل غرفة شبه معتمة في أحد مراكز الإيواء وسط قطاع غزة، يستلقي محمد عامر (42 عاما) محاولا تثبيت جسده الذي يخونه مرة تلو الأخرى. منذ أكثر من عامين، يعاني محمد من التهابات مزمنة في الحبل الشوكي، حالة نادرة ومعقدة تسببت له بنوبات شلل متقطع، تبدأ بتنميل حاد في الأطراف، ثم فقدان تدريجي للقدرة على الحركة، وقد تمتد أحيانا إلى فقدان الإحساس بالكامل لساعات أو أيام.
لكن ما كان مرضا يمكن السيطرة عليه بالعلاج المتخصص، تحوّل مع إغلاق معبر رفح إلى حكم انتظار مفتوح، يهدد بأن يصبح الشلل دائما. يقول عامر لصحيفة "فلسطين" بينما يحاول تحريك ساقيه دون جدوى: "في كل مرة أشعر بأن قدمي لا تستجيبان، أظن أن هذه هي المرة التي لن أستعيد فيها الحركة. أخاف أن يسبقني الشلل قبل أن أتمكن من السفر للعلاج".
بحسب تقارير أطباء تابعوا حالته، يحتاج محمد بشكل عاجل إلى فحوصات متقدمة وتصوير بالرنين المغناطيسي عالي الدقة، إضافة إلى علاج دوائي متخصص وجلسات تأهيل عصبي غير متوفرة في غزة. إلا أن المنظومة الصحية المنهكة، بفعل الحرب ونقص الأدوية والمستلزمات الطبية، تقف عاجزة أمام حالته المتدهورة.
داخل غزة، لا تتوفر الأدوية المناعية الحديثة ولا العلاجات العصبية المتقدمة التي يحتاجها عامر. كما أن الانقطاعات المتكررة للكهرباء تعيق تشغيل الأجهزة الطبية الأساسية، في وقت باتت فيه المستشفيات مكتظة بالجرحى، وتعاني من نقص حاد في الكوادر والمستهلكات الطبية.
يضيف عامر وهو يشير إلى حقيبة صغيرة بجواره: "هذه الحقيبة جاهزة منذ شهور. أعددتها على أمل أن يفتح المعبر فجأة. كل يوم أقول ربما غدا، لكن الأيام تمر، وظهري يزداد ألما، وحركتي تتراجع".
الصراع بالنسبة له لم يعد مع المرض وحده، بل مع الزمن أيضا. فكل نوبة شلل جديدة تقلص فرص التعافي الكامل، وكل تأخير في السفر يرفع احتمالات الإصابة بإعاقة دائمة "أنا لا أطلب معجزة"، يقول محمد، "أطلب فقط أن يسمحوا لي بالوصول إلى العلاج قبل أن أفقد قدرتي على المشي إلى الأبد".
مستقبل مؤجل خلف البوابة
في زاوية خيمة منصوبة على أطراف مدينة خان يونس، يجلس عبد الهادي مرتجى (19 عاما) أمام هاتفه المحمول، يعيد قراءة رسالة القبول الجامعي القادمة من إيرلندا للمرة العاشرة في اليوم ذاته. الرسالة نفسها التي كانت قبل أشهر دليلا على نجاته الأكاديمية وسط الحرب، تحولت اليوم إلى مصدر قلق دائم، مع اقتراب موعد الالتحاق، واستمرار إغلاق معبر رفح الذي يقف حائلا بينه وبين حلمه الوحيد.
مرتجى، وهو خريج متفوق من الثانوية العامة، حصل على منحة جامعية كاملة لدراسة تخصص تقني نادر في إحدى الجامعات الإيرلندية. حلم كان ثمرة سنوات من الاجتهاد والعمل الليلي على ضوء الشموع، لكنه اليوم مهدد بالضياع بسبب عجزه عن مغادرة غزة.
يقول مرتجى لـ"فلسطين": "نجوت من القصف، ونجوت من النزوح، لكن يبدو أنني قد لا أنجو من ضياع مستقبلي. الحرب لم تقتل الحاضر فقط، بل تطارد مستقبلنا أيضا".
يشرح أن الجامعة منحته مهلة محدودة للالتحاق، وأن أي تأخير إضافي قد يعني سحب المنحة نهائيا ومنحها لطالب آخر "كل يوم يمر دون فتح المعبر يقربني خطوة من خسارة حلم بنيته طوال عمري. المنحة لا تنتظر، والجامعة لا تفهم معنى أن تكون محاصرا خلف بوابة مغلقة".
يتحدث الشاب الجامعي عن أثر الإغلاق على الطلبة في غزة كجماعة لا كأفراد، قائلاً: "لسنا أرقاما في قوائم السفر. نحن طلبة خسرنا أعواما من أعمارنا، وضاعت علينا فرص لا تتكرر. حين تغلق المعابر، لا يغلق طريق السفر فقط، بل يغلق طريق العلم والحلم والعمل".
العودة الممنوعة.. غرباء عن بيوتهم
لم يغادر محمد النفار وأسرته غزة بحثا عن حياة أفضل، بل هربا من الموت. في ذروة القصف، حمل أطفاله الثلاثة على عجل، وخرج مع زوجته عبر معبر رفح، وهو يعتقد أن الغياب سيكون مؤقتا، أياما أو أسابيع على الأكثر قبل أن يعود إلى منزله في غزة. لكن الشهور مرت، وتحول الخروج الاضطراري إلى غربة قسرية، وباتت العودة حلما مؤجلا يقف عند بوابة مغلقة.
اليوم، تعيش عائلة النفار خارج القطاع في حالة انتظار ثقيل. يتابع محمد أخبار المعبر يوميا، لكن فرحته بأي حديث عن فتحه سرعان ما تتحول إلى قلق مضاعف "أخشى أن يفتح المعبر باتجاه واحد فقط، للمغادرة دون العودة. هذا أكثر ما يرعبني. أن يسمحوا للناس بالخروج، لكن يمنعونا نحن من الرجوع إلى بيوتنا، كأن الوطن يصبح طريقا بلا عودة".
يقول النفار إن فكرة المنع من العودة لا تقل قسوة عن القصف نفسه: "حين خرجنا، لم نودع غزة. تركنا البيت مفتوحا، وتركت مفاتيحي معي. كنت متأكدا أنني سأعود. اليوم أشعر وكأنني معلق في الفراغ، لا أنا هناك ولا أنا هنا".
رغم شمول إعادة فتح معبر رفح البري ضمن اتفاق وقف إطلاق النار والتحركات الدبلوماسية التي تقودها مصر بالتنسيق مع الأمم المتحدة وبدعم أطراف إقليمية، ما تزال الجهود الرامية إلى إعادة فتح معبر رفح متعثرة دون التوصل إلى اتفاق واضح أو جدول زمني ملزم.
ويتمحور الخلاف حول آلية التشغيل واتجاه الفتح، في ظل محاولات حصره في اتجاه واحد أو ضمن قوائم محدودة، الأمر الذي يفرغ الفتح من مضمونه الإنساني. وبينما تُطرح مطالب بفتح المعبر في الاتجاهين لتسهيل عودة العالقين وسفر المرضى والطلبة، يبقى غياب الضغط الدولي الفعلي عاملا رئيسيا في إبقاء آلاف المدنيين رهائن لمفاوضات هشة لا تنعكس حتى الآن على واقعهم اليومي.

