﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾ (المنافقون: 4)
إنها صيحة القرآن الخالدة، تحذيرٌ يتجاوز الأزمنة والأمكنة، لأن خطر المنافقين ليس حادثةً عابرة، بل داءٌ متجذّر ينهش البنية الأخلاقية للمجتمع، ويهدّد كيانه من الداخل. لقد جلّت آيات الكتاب الكريم—في أعمق تصويرٍ نفسيٍّ عرفته البشرية—صفاتهم، فلم تُقيّدهم باسمٍ، ولم تحصرهم في زمن، بل كشفت جوهرهم، ورسمت ملامحهم، لتبقى صورتهم حيّةً متحرّكة، تتكرّر كلما تكرّر الانحراف، وتتجدّد كلما ادلهمّت المحن.
النفاق ليس لقبًا يُعلّق، ولا قناعًا يُرتدى في لحظة، بل هو صفةٌ خبيثة تتخفّى خلف الشعارات، وتنتظر ساعة الشدّة لتخرج بوجهها القبيح. وفي أوقات الامتحان العظيم، يسقط الزيف، ويعلو صوت الحقيقة، ويُفرَز الناس كما تُفرَز المعادن بالنار. وهكذا يتجلّى النفاق اليوم عاريًا فاضحًا، في زمن حرب الإبادة على غزة؛ حيث تُختبَر المواقف لا الشعارات، وتُوزَن القلوب لا الألسنة.
قال الله تعالى فيهم: ﴿يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم﴾ (آل عمران: 167)، فكان اللسان عندهم قناعًا، والقلب موطن الخيانة. وقال سبحانه: ﴿في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضًا﴾ (البقرة: 10)؛ مرضٌ لا يُرجى برؤه لأنهم لم يطلبوا الشفاء. فلا عهدَ يُؤتمنون عليه، ولا موقفَ يثبتون عنده. ﴿وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون﴾ (البقرة: 14).
يتزيّنون ويتدثّرون بالشعارات، ويتّخذون من اللغة ستارًا، ومن الوطنية لافتة، ومن دماء الشهداء سلّمًا يصعدون به إلى تضخيم ذواتهم. سلوكٌ نرجسيٌّ فجّ، لا يخطئه القلب البصير، يقتات على التضحيات، ويستثمر الألم، ويبيع المأساة في سوق الأنا. ﴿يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون﴾ (البقرة: 9).
ولأن خطرهم ليس في عداوةٍ معلنة، بل في طعنةٍ خفيّة، كان جزاؤهم عظيمًا: خزيٌ في الدنيا، وعذابٌ في الآخرة، ﴿في الدرك الأسفل من النار﴾ (النساء: 145)؛ إذ لا فساد أشدّ من فساد الداخل، ولا هدم أخطر من هدمٍ باسم الانتماء. وحين يجمع القرآن ملامحهم، تتكشّف صورتهم كاملة: ﴿يقولون ما لا يفعلون﴾ (الصف: 2)، ويُعرَفون لا بصدق المواقف، بل بانكسار العبارة والتواء الخطاب: ﴿ولتعرفنهم في لحن القول﴾ (محمد: 30). كلامٌ منمّق، جذّاب، معسول، ﴿وإن يقولوا تسمع لقولهم﴾ (المنافقون: 4)، غير أنّه خواءٌ محض، ﴿كأنهم خشبٌ مسندة﴾ (المنافقون: 4).
ينهشون المؤمنين بألسنةٍ مسنونة، ﴿سلقوكم بألسنةٍ حدادٍ أشحّةً على الخير﴾ (الأحزاب: 19)، حتى يبلغوا حدّ التماهي مع رواية العدو وأراجيفه؛ فلا بذل، ولا وفاء، ولا موقف. وفي العطاء يتقلّبون: ﴿إن أُعطوا رضوا، وإن لم يُعطَوا إذا هم يسخطون﴾ (التوبة: 58)، فيحوّلون الخلاف إلى حرب، والمؤسسات إلى خصوم، والحارات إلى ساحات تصفية.
إن وقعت مصيبة، زعموا الفطنة والحذر، وقالوا: ﴿قد أخذنا أمرنا من قبل﴾ (التوبة: 50)، ولو كان ذلك بالخروج من غزة تحت أنف دبابة المحتل. وإن جاءت حسنة، تسابقوا لادّعاء القرب، طلبًا للمنصب والسلطة والمال: ﴿ألم نكن معكم﴾ (النساء: 141). هم ﴿مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء﴾ (النساء: 143)؛ بلا مبدأٍ يحكمهم، ولا بوصلةٍ تهديهم. وقد كتب الله عليهم القلق الدائم، ﴿يحسبون كل صيحةٍ عليهم﴾ (المنافقون: 4).
وقد فضحهم رسول الله ﷺ بميزان السلوك: «إذا حدّث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» (متفق عليه). ثم ختم الله أمرهم بالحقيقة القاطعة: ﴿هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون﴾ (المنافقون: 4).
ومع ذلك، فإن من تمام الحكمة وكمال العدل أن نُحذّر من الصفة دون أن نُسمّي الأشخاص؛ فالنفاق حكمٌ إلهي، لم يمنحه الله لنبيّه ﷺ في تسمية الناس، فكيف يتجرّأ عليه غيره؟ وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه—وهو من هو—يراجع نفسه، ويخشى على قلبه، ويسأل الله ألّا يكون منافقًا.
فحريٌّ بنا، ونحن الضعفاء، أن نخاف على قلوبنا قبل أن نُصنّف غيرنا، وأن نتحصّن بالوعي لا بالاتهام، وبالبصيرة لا بالاندفاع. ويبقى سلاح المؤمن الأخير والأصدق دعاءً خاشعًا:
يا مقلب القلوب، ثبّت قلوبنا على دينك

