فلسطين أون لاين

هل نحن موجودون كي نخاف من العدم؟

ليس العدم هو ما يخيف الإنسان أول مرة، بل ذلك الشعور الخفيّ بأن الأيام تمرّ أسرع مما ينبغي، وأن القلب لم يُستعمل كما يجب، وأن في الصدر طاقة كان يجب أن تُنفق… لكنها بقيت حبيسة. الخوف لا يولد عند حافة القبر. بل في منتصف الطريق، حين يلتفت الإنسان وراءه ولا يرى إلا خطواتٍ حذرة، اختياراتٍ مؤجّلة، ومواقف كان يمكن أن تكون أصدق لو تجرّأ قليلًا.

العدم يبدأ حين نعيش بنصف طاقة. نحن لا نخاف لأننا سننتهي، فنحن نعرف النهاية منذ أن تعلّمنا الكلام. نخاف لأننا نشكّ - في لحظات الصمت - أننا لم نضع ثقلنا الحقيقي في الحياة. الإنسان لا يُرعبه الرحيل، بل خواء الرحلة. التضحية ليست بطولة ولا خطابًا ولا صورة. هي شيء أثقل وأصعب: أن تعيش وأنت تعرف أن الطريق سيأخذ منك، ومع ذلك لا تساوم على روحك. أن تخسر بعض الراحة كي لا تخسر نفسك. كل ما يُنقذ الإنسان في النهاية، كلّفه شيئًا في البداية. كثيرون عاشوا طويلًا، لكنهم عاشوا وهم يُمسكون الحياة بأطراف أصابعهم، خوفًا من الجرح، خوفًا من التعب، خوفًا من أن لا يُقدَّروا. فخرجوا سالمين… لكن فارغين.

السلامة بلا معنى نوعٌ من العدم المؤجّل. الإنسان خُلق ليُبتلى بالحمل، لا ليُعفى منه. كل قلبٍ بلا عبء يفسد، وكل روح لا تُستنزف في شيء تؤمن به، تذبل. ما لم يُستعمل في الحق، يستهلك صاحبه في الفراغ. التضحية لا تعني أن تحرق نفسك بلا اتجاه، بل أن تعرف أين تقف، ومتى تقول "لا"، ومتى تكمّل رغم الإنهاك. أن تختار الطريق الذي يحترمك، ولو أتعبك.

الطريق السهل لا يصنع نفوسًا صلبة. حين يعطي الإنسان بصدق، شيئًا من وقته، من جهده، من صبره، من عمره… يحدث شيء داخلي عجيب: يتراجع الخوف. ليس لأن الألم اختفى، بل لأن الوجود امتلأ. الامتلاء يطرد العدم دون ضجيج. الخوف من العدم يسكن الذين عاشوا لأنفسهم فقط. أما الذي عاش وهو يحمل همًّا، قضية، أمانة، مسؤولية، فإنه — حتى وهو متعب — يشعر أن لخطواته وزنًا.

الثقل الحقيقي ليس في الجسد، بل في المعنى. وفي لحظات الضعف، حين يتساءل الإنسان: هل كان يستحق؟ يأتي الجواب من الداخل لا من الخارج. ليس جوابًا بالكلمات، بل سكينة خفيفة تقول: أنت لم تخن ما آمنت به. ومن لم يخن نفسه، لا يخاف نهايته. العدم ليس ظلامًا بعد الموت، العدم هو أن نعيش ونغادر دون أن نترك في أنفسنا شهادة أننا حاولنا. المحاولة الصادقة تهزم العدم، حتى لو فشلت. لسنا موجودين كي نخاف من العدم. نحن موجودون كي نُجبره على التراجع، بفعلٍ صادق، وبتضحية واعية، وبقلبٍ لم يُغلق أبوابه خوفًا. فالذي عاش وهو يعطي، قد يتعب، قد يُخذل، قد يُهزم ظاهريًا، لكنه لا يفرغ. ومن لا يفرغ… لا يعدم.

وعند هذا الحد، لا يعود سؤال العدم مُلحًّا. يتراجع إلى الخلف، يصغر، يبهت. لأن الإنسان الذي عاش وهو يعطي، يعرف في داخله: أن ما خرج منه لم يذهب هباءً. ما خرج بصدق، لا يضيع… حتى لو لم نره. وهكذا، نمشي. لا لأن الطريق مضمون، بل لأن الوقوف أشدّ قسوة. نمشي ونحن نعرف أن التضحية لن تُصفّق لها دائمًا، وأن العدل قد يتأخر، وأن التعب جزء من الثمن. لكننا نمشي. فالحياة التي تُعاش واقفين، لا تُختزل في نهايتها.

في التاريخ رجلٌ خرج من بيته وهو يعلم أنه لن يعود كما خرج، لا لأنه كان يطلب الموت، بل لأنه كان يرى أن الحياة التي تُحفظ على حساب الحق حياة ناقصة. حين وقف في كربلاء، لم يكن يواجه جيشًا فقط، بل فكرة كاملة: أن ينجو الإنسان بنفسه ويترك المعنى يُذبح. وكان يمكنه أن يساوم، أن يؤجّل، أن يختار السلامة المؤقتة، لكنّه فهم ما لم يفهمه كثيرون: أن النجاة التي تُشترى بالتنازل شكلٌ من العدم. لم يكن معه كثيرون، وكان يعرف ذلك. وكان يعرف أيضًا أن النتيجة الظاهرة محسومة. ومع ذلك مضى. لا لأنه لا يرى النهاية، بل لأنه كان يرى ما بعدها. بعض الناس لا يقيسون أفعالهم بما سيحدث لهم، بل بما سيحدث للحق إن تراجعوا. في تلك اللحظة، لم يكن السؤال: هل سنموت؟ بل: كيف سنعيش لو لم نفعل؟ وهنا سقط الخوف من العدم، لأن المعنى صار أثقل من البقاء. لم ينتصر بالسيف، لكنّه أنقذ المعنى من الموت. ولو كان العدم يُقاس بالأجساد، لكان قد انتهى هناك. لكن التاريخ يشهد أن الذي بذل نفسه صار حضورًا دائمًا، وأن الذين اختاروا السلامة ذابوا في هوامش الزمن.

فالعبرة ليست في أن تطيل حياتك، بل في أن تمنحها سببًا لتُذكَر. وهكذا، نكتشف أن بعض التضحيات لم تُنجِ أصحابها من الموت، لكنها أنقذت البشرية من خواءٍ طويل. ومن أنقذ المعنى، لا يُعدم.