لم يعد معبر رفح مجرد نقطة عبور حدودية جنوب قطاع غزة، بل تحوّل إلى أحد أكثر تجليات الحصار المركّب قسوة على المدنيين الفلسطينيين، في واقعٍ تبلور بعد عامين كاملين من حرب إبادة متواصلة خطفت أرواح أكثر من 70 ألف فلسطيني، ودمّرت مقومات الحياة الأساسية في القطاع. وفي هذا السياق، بات المعبر عنوانًا لمعاناة جماعية تمسّ جوهر حقوق الإنسان، وفي مقدمتها الحق في الحياة، والصحة، والتنقل، والتعليم، ولمّ شمل الأسر.
ومع استمرار إغلاق المعبر أو تشغيله بصورة جزئية وانتقائية، وجد آلاف الفلسطينيين أنفسهم عالقين في مساحة رمادية بين البقاء القسري والمغادرة غير المضمونة، في مشهد يعكس كيف يمكن للمعابر أن تتحول من أدوات تنظيمية إلى وسائل ضغط وعقاب جماعي، تُستخدم في سياق سياسي وأمني على حساب الاحتياجات الإنسانية الملحّة.
تشير المعطيات المتوفرة إلى أن عشرات الآلاف من سكان القطاع باتوا بحاجة ماسّة إلى السفر، سواء لتلقي العلاج غير المتوفر داخل غزة، أو لاستكمال مسارهم التعليمي، أو للعودة إلى منازلهم بعد نزوح اضطراري فرضته العمليات العسكرية. وفي المقابل، أدى الإغلاق المستمر إلى تفويت فرص علاجية حاسمة على مرضى الحالات الحرجة، في وقت تعاني المنظومة الصحية في غزة انهيارا شبه كامل، بفعل القصف المتكرر، ونقص الأدوية والمستلزمات الطبية، وانقطاع الكهرباء، واستنزاف الكوادر الطبية خلال عامين من الحرب.
من زاوية قانونية، يثير هذا الواقع تساؤلات جدية بشأن التزامات الأطراف ذات الصلة، إذ تنص المادة (12) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على حق كل فرد في حرية التنقل، بما في ذلك حقه في مغادرة أي بلد والعودة إليه. كما تؤكد المادة (25) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حق كل إنسان في مستوى معيشي لائق يضمن له الصحة والرعاية الطبية. وعليه، فإن تعطيل السفر لأسباب علاجية أو تعليمية، دون مبررات قانونية مشروعة، يُعد مساسًا مباشرًا بهذه الحقوق الأساسية.
أما فيما يتعلق بالمرضى، فإن القانون الدولي الإنساني، ولا سيما اتفاقية جنيف الرابعة، يُلزم القوة القائمة بالاحتلال ضمانَ الرعاية الطبية للسكان المدنيين، وتسهيل مرور الجرحى والمرضى لتلقي العلاج، وعدم عرقلة وصولهم إلى الخدمات الصحية. ويذهب عدد من خبراء القانون إلى اعتبار منع المرضى من السفر للعلاج، مع العلم بخطورة حالتهم، شكلًا من أشكال المعاملة القاسية أو اللاإنسانية، وقد يرقى في بعض الحالات إلى انتهاك جسيم إذا أدى إلى تدهور صحي دائم أو الوفاة.
وفي السياق ذاته، يواجه الطلبة الفلسطينيون خسارة فرص تعليمية نادرة نتيجة الإغلاق، ما يشكّل انتهاكًا واضحًا لحقهم في التعليم، المنصوص عليه في العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. فالمنح الدراسية والقبولات الجامعية تخضع لجداول زمنية صارمة لا تراعي واقع الحصار والحرب، ومع كل تأخير تتبدد سنوات من الجهد الأكاديمي، ويُغلق باب المستقبل أمام جيلٍ أنهكته الحرب قبل أن تمنحه فرصة الحياة.
ولا يقتصر أثر الإغلاق في من يسعون للمغادرة، بل يمتد إلى آلاف الفلسطينيين الذين اضطروا لمغادرة القطاع هربًا من القصف، ليجدوا أنفسهم اليوم ممنوعين من العودة. ويشكّل هذا الواقع انتهاكًا صريحًا للحق في العودة إلى الوطن، وهو حق فردي غير قابل للتصرف، تؤكده قواعد القانون الدولي العرفي وتحميه نصوص متعددة في القانون الدولي لحقوق الإنسان.
وعلى الرغم من إدراج إعادة فتح معبر رفح ضمن تفاهمات سياسية واتفاقات تهدئة، فإن غياب آلية واضحة وملزمة للتشغيل، وحصر الفتح في اتجاه واحد أو وفق قوائم محدودة، يفرغ أي خطوة من مضمونها الإنساني. ففتح المعبر بصورة جزئية لا يعالج جوهر الأزمة، بل يعيد إنتاجها بصيغة أقل حدّة وأكثر إرباكًا، دون أن يوقف النزيف الإنساني المستمر منذ عامين من الإبادة.
في المحصلة، لا يمكن التعامل مع معبر رفح كملف سياسي عابر أو ورقة تفاوض، بل كقضية إنسانية وقانونية بامتياز. استمرار إغلاقه يعني استمرار انتهاك منظّم لحقوق المدنيين، ويضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته القانونية والأخلاقية. فحين تتحول البوابات إلى أدوات عقاب جماعي، يصبح فتحها التزامًا لا خيارًا، وواجبًا لا منّة.

