رغم مضي أكثر من شهرين على دخول اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة حيز التنفيذ، لا تزال الخروقات الإسرائيلية المتواصلة تثير تساؤلات حول نوايا الاحتلال وحدود التزامه بالاتفاق. فبين الاغتيالات والتوغلات والتحكم بالحدود والمعابر، تسعى (إسرائيل) إلى تكريس معادلة تُبقي يدها الأمنية والسياسية طليقة، وتحول الاتفاق إلى أداة لإدارة الصراع وتأجيل استحقاقاته.
ورصدت جهات حكومية مختصة في غزة 740 خرقا للاتفاق من جانب الاحتلال منذ توقيع الاتفاق، في العاشر من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أسفرت عن استشهاد 386 مواطنا، وإصابة 980 آخرين، إلى جانب 43 حالة اعتقال.
وواصل الاحتلال تنصّله من التزاماته الواردة في الاتفاق، ولم يلتزم بالحدّ الأدنى من كميات المساعدات المتفق عليها، ولم يدخل قطاع غزة سوى 14 ألفا و534 شاحنة من أصل 37 ألفا و200 شاحنة كان يفترض دخولها وفق الاتفاق.
السيطرة الإسرائيلية
المختص في الشأن الإسرائيلي سليمان بشارت يرى أن (إسرائيل) تحاول إبقاء دورها الأمني حاضرًا وبقوة داخل قطاع غزة، من خلال مواصلة تنفيذ عمليات اغتيال أو توغلات ميدانية أو أي نشاط أمني آخر، بما يمنحها تفوقًا استخباريًا وميدانيًا، ويُبقي يدها الطولى في التعامل مع الجغرافيا الفلسطينية.
ويوضح بشارت في حديثه لـ "فلسطين أون لاين"، أن هذا السلوك يعكس تركيز (إسرائيل) في المرحلة المقبلة، ولا سيما المرحلة الثانية من الاتفاق، على حصر النقاش في ملف "إنهاء سلاح المقاومة الفلسطينية"، باعتباره المدخل الرئيسي لإعادة صياغة المشهد في غزة.
ويضيف أن (إسرائيل) تعمل بوضوح على إعادة تشكيل بنود الاتفاق الموقع مع المقاومة الفلسطينية، بما يمنحها القدرة على التحكم بعدة ملفات مركزية، في مقدمتها، الإبقاء على وجود إسرائيلي داخل جغرافيا قطاع غزة، والسيطرة الكاملة على الحدود، والتحكم بالمعابر.
ويشير إلى أن هذه السيطرة تتيح لـ(إسرائيل) لاحقًا الإمساك الكامل بملف إعادة إعمار غزة، وتنظيم إدخال المساعدات الإنسانية، بما يحول هذه الملفات إلى أدوات مساومة وابتزاز في كل محطة مرتبطة بمستقبل القطاع، سواء على المستوى الإنساني أو الخدماتي أو حتى السياسي.
ويتابع: "أن (إسرائيل) لا تريد إغلاق الملفات، بل إبقاءها مفتوحة ضمن معادلة تسمح لها بالحسم المطلق متى أرادت، وهو نموذج تابعناه في لبنان من خلال آلية تنفيذ الاتفاق، وكذلك في سوريا عبر الحضور والتدخل الإسرائيلي المستمر، وتسعى اليوم لتكريسه في قطاع غزة".
ويرى بشارات أن هذه المقاربة تمنح (إسرائيل) أفضلية سياسية وأمنية، وتخدم في الوقت ذاته المنظور السياسي الداخلي الإسرائيلي، مؤكدًا أن المعادلة الإسرائيلية الداخلية حاضرة بقوة في كل ما يجري في غزة والجبهات الأخرى، لأنها تصب في مصلحة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وائتلافه، خاصة مع الاستعدادات المبكرة للانتخابات الإسرائيلية العام المقبل.
سيناريوهات المستقبل
ويحدد بشارت ثلاثة سيناريوهات رئيسية للمشهد الحالي: الأول يتمثل في تفجير الاتفاق، مرجحًا أن يأتي ذلك من الاحتلال، باعتباره الطرف الوحيد المستفيد من استمرار حالة عدم الاستقرار، إلا أن هذا السيناريو، رغم وجود رغبة سياسية إسرائيلية جامحة للذهاب إليه، يصطدم بثلاثة عوائق رئيسية.
ويوضح أن أول هذه العوائق يتمثل في المستوى العسكري الإسرائيلي الذي يرفض العودة إلى الحرب، وهو ما عكسته الرسالة التي وقعها نحو مئة من الضباط والجنرالات والشخصيات العسكرية والسياسية الإسرائيلية ووجهوها إلى البيت الأبيض قبيل زيارة نتنياهو، في إشارة واضحة إلى الدفع باتجاه المرحلة الثانية من الاتفاق بدل العودة مجددًا في المواجهة.
كما يبين بشارت أن العائق الثاني يرتبط بالموقف الأمريكي، إذ يرى أن الرئيس دونالد ترامب، الذي قدم الاتفاق باعتباره جزءًا من رؤيته السياسية، لن يسمح بتفجيره لما يحمله ذلك من خسارة مباشرة لمكانته ودوره في واحدة من أكثر قضايا الشرق الأوسط حساسية.
أما العائق الثالث، وفق بشارت، فيتعلق بدور الوسطاء، حيث يؤكد أن الدول الوسيطة، وعددها ثماني دول عربية وإقليمية وإسلامية ذات ثقل سياسي ومصالح مباشرة مع واشنطن، لن تقبل بأن يُوصم دورها بالفشل، وهو ما عبّرت عنه تصريحات رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري الأخيرة عقب لقاءاته في الولايات المتحدة.
وفي المقابل، يلفت بشارت إلى سيناريو ثان يعده الأقرب إلى الواقع، يتمثل في ذهاب (إسرائيل) نحو تبطيء تنفيذ الاتفاق والعمل على إعادة صياغة بنوده تدريجيًا بما يخدم أهدافها، سواء عبر الخروقات الميدانية، أو تكريس وقائع جديدة على الأرض، أو تأخير بعض الاستحقاقات، مثل تشكيل قوة الاستقرار الدولية أو مجلس السلام الدولي. ويرى أن هذا المسار يمنح (إسرائيل) فرصة للاستثمار الميداني والسياسي، وفرض واقع جديد في قطاع غزة دون الانزلاق إلى تفجير شامل للاتفاق.
أما السيناريو الثالث، فيقوم على الانتقال المباشر إلى المرحلة الثانية، مع احتساب الخروقات الإسرائيلية، وإلزام (تل أبيب) بتنفيذ بنود الاتفاق كاملة. ويصف بشارت هذا السيناريو بأنه "ذهبي"، لكنه يستبعد تحققه في المدى القريب.
ويخلص بشارات إلى أن سيناريو التطبيق المتعثر والانتقال المرحلي يظل الأكثر واقعية حتى اللحظة، في ظل توازنات إقليمية ودولية معقدة، ورغبة إسرائيلية في كسب الوقت دون حسم نهائي.
نهج نتنياهو في إدارة الاتفاق
أستاذ الدراسات الإسرائيلية د. محمد هلسة، يرى أن نتنياهو لا يتعامل مع اتفاق وقف إطلاق النار من زاوية نسفه أو تفجيره بشكل صريح، بل من خلال إفراغه تدريجيًا من مضمونه، والإبقاء عليه قائمًا شكليًا طالما يوفر لـ(إسرائيل) الهوامش نفسها التي حصلت عليها في المرحلة الأولى، مع توسيعها كلما أمكن.
ويوضح هلسة لـ"فلسطين أون لاين"، أن (إسرائيل) تواصل القتل والاغتيال، وتغلق المعابر، وتقيد إدخال المساعدات، وتمنح جيشها حرية شبه مطلقة في العمل داخل القطاع، ثم تعلن في الوقت ذاته التزامها بالاتفاق وتتهم الطرف الفلسطيني بخرقه.
ويشير إلى أن هذه المقاربة تتيح لنتنياهو الجمع بين نقيضين، استمرار الحرب عمليًا دون إعلانها رسميًا، والحفاظ على مستوى منخفض من الصخب الدولي والإدانة السياسية، بما يجنبه دفع أثمان مباشرة، خصوصًا في عام انتخابي حساس.
ووفق هلسة، فإن هذا النموذج ليس جديدًا، بل سبق أن طُبق في لبنان، حيث حافظت (إسرائيل) على حرية التدخل العسكري رغم وجود تفاهمات قائمة، معتبرًا أن لا عائق يمنع نقل الصيغة ذاتها إلى قطاع غزة.
وفيما يتعلق بالمرحلة الثانية من الاتفاق، يؤكد هلسة أن (إسرائيل) تنظر إليها بشكل انتقائي، إذ تختزلها في ملف واحد هو نزع سلاح المقاومة، وتربط أي انسحاب أو التزام ببقية البنود بتحقيق هذا الهدف وفق الرؤية الإسرائيلية. ويرى أن (تل أبيب) معنية استراتيجيًا بالإبقاء على هذا الملف مفتوحًا، باعتباره ذريعة جاهزة للتدخل العسكري المستقبلي.
ويضيف أن تضخيم قضية نزع السلاح يخدم نتنياهو داخليًا، في إطار البحث عن صورة "نصر" رمزية، حتى لو اقتصر الأمر على مشاهد استعراضية محدودة، كما يمنح حكومته مبررًا لتحويل الترتيبات المؤقتة إلى واقع دائم، تحت ادعاء أن المقاومة ترفض نزع سلاحها وأن المجتمع الدولي عاجز عن فرض ذلك، ما يكرس استمرار السيطرة الإسرائيلية والتدخل العسكري تحت غطاء الاتفاق.

