بعد انحسار المنخفض الجوي الذي ضرب قطاع غزة، لم تنتهِ معاناة السكان بانقطاع المطر، بل بدأت مرحلة أشد قسوة؛ مواجهة الخسائر اليومية وتجفيف ما تبقّى من حياةٍ ابتلّت بالماء، في بيوت متصدعة وخيام ممزقة لم تعد صالحة للسكن.
في الأزقة الضيقة، وعلى أسطح المنازل، وعلى جوانب الخيام، علّق الناس ما استطاعوا إنقاذه من ملابس وفرش وبطانيات، في مشهد بات مألوفًا بعد كل منخفض، لكنه أكثر إيلامًا هذا الشتاء في ظل الفقر وانعدام البدائل.
تقول أنعام جودة (43 عامًا)، وهي نازحة تعيش في خيمة جنوب مدينة غزة، إن معاناتها في فصل الشتاء لا تقتصر على مواجهة المنخفضات، بل تمتد إلى ما بعدها.
وتضيف لصحيفة "فلسطين": “يومي يبدأ بمحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الملابس المبتلة؛ فكل ملابس الأطفال غرقت بالماء، والبطانيات أصبحت ثقيلة ولا تجف، ولا نملك غيرها. نغسلها وننشرها وننتظر الشمس، وإن لم تظهر نعيد استخدامها وهي رطبة”.
وتشير جودة إلى أن الخيمة التي تسكنها تمزقت أطرافها بفعل الرياح، ما سمح بتسلل المطر إلى الداخل، وحوّل أرضية الخيمة إلى طين، وبلّل الفراش بالكامل.
وتكمل بحسرة: “النوم أصبح عذابًا؛ لا فراش جاف ولا أغطية تحمينا من البرد”.
أما أم محمد قزعاط، وهي ربة منزل تقيم في بيت متضرر جزئيًا، فتؤكد أن المنخفض أفقدهم معظم أغطيتهم، إذ ينامون على الأرض بعد أن تسربت المياه من الجدران المتشققة والمكسورة.
وتقول لصحيفة "فلسطين": “الماء دخل من النوافذ والجدران، والفرش والبطانيات لم تعد صالحة. تركناها في الشمس لكنها لم تجف، وها نحن على مشارف منخفض جديد لنعيد السيناريو المؤلم ذاته”.
وتلفت إلى أن البدائل أمامهم معدومة؛ فما يتلف لا يمكن تعويضه، فلا مال لديهم لشراء غيره، ولا يتلقون أي مساعدات من بطانيات أو أغطية من المؤسسات الإغاثية العاملة في غزة.
في مخيمات النزوح، تبدو آثار المنخفض أكثر قسوة؛ خيام ممزقة، وفرش مبللة، وأغطية فقدت وظيفتها الأساسية.
يقول أحمد ياسين، وهو أب لخمسة أطفال يعيش في مخيم بحي الزيتون، إن ما بعد المنخفض أصعب من المنخفض نفسه.
ويضيف لـ"فلسطين": “أمضينا الليل نحاول رفع الأغراض عن الأرض، وبعد توقف المطر بدأنا التجفيف، لكن كيف؟ لا كهرباء، ولا دفايات، ولا أماكن مناسبة”.
ويشير ياسين إلى أن ملابسهم توضع في حقائب على الأرض فتبتل بسهولة، ومن الصعب تجفيفها لاحقًا، ما يضطره أحيانًا إلى التخلص من الملابس المبتلة لأنها لم تعد صالحة للاستخدام، خاصة ملابس الأطفال.
ويقول: “نرتدي ما يجف أولًا، والباقي نتركه، فلا قدرة لنا على الشراء”.
أما محمود عابد، وهو نازح من حي الشجاعية وأب لثلاثة أطفال لا تتجاوز أعمارهم عشر سنوات، فيقول: “الخيمة لم تعد تحمينا، المطر يدخل من كل مكان، وبعده لا نجد مكانًا نجفف فيه أغراضنا”.
ويضيف لـ"فلسطين" أن بعض العائلات في المخيم اضطرت إلى التخلص من فرشها بالكامل، بينما لجأت أخرى إلى النوم على الأرض أو على قطع من الكرتون.
ويتابع: “الشتاء هنا طويل، وكل منخفض يعيدنا إلى نقطة الصفر. الخسائر لا تقتصر على الممتلكات فقط، بل تمتد إلى تفاصيل الحياة اليومية”.
ويشير إلى أن الأطفال يمضون أيامًا دون تغيير ملابسهم بسبب ابتلالها، فيما يعاني كبار السن من البرد والرطوبة.
واقع بلا بدائل
في ظل غياب مواد الإغاثة الكافية، وانعدام القدرة على شراء ملابس أو أغطية جديدة، يجد سكان غزة أنفسهم مضطرين للتكيف مع واقع قاسٍ.
أصبح التجفيف تحت أشعة الشمس طقسًا يوميًا، وأضحى انتظار الطقس الجيد ضرورة للبقاء لا رفاهية.
ما بعد المطر في غزة ليس مجرد آثار مياه، بل خسائر صامتة تتراكم مع كل منخفض؛ ملابس لم تعد تُلبس، وفرش فقدت قيمتها، وخيام لم تعد تقي، وأجساد تقاوم البرد بإمكانات شبه معدومة.
ومع اقتراب منخفضات جديدة، يبقى السؤال مفتوحًا: كيف سيواجه سكان القطاع شتاءً طويلًا، وهم ما زالوا يجففون آثار المطر السابق؟.

