في أحد فصول مدرسة تابعة لوكالة الغوث بمخيم النصيرات، حيث ضاقت الحياة بالنازحين وامتلأت الصفوف بأحلام الأطفال وحذر الآباء، كان حسام رياض دلول (42 عامًا) يحاول أن يخلق لعائلته مساحة آمنة وسط نار الحرب المشتعلة.
نزح من حي الزيتون شرق غزة بحثًا عن الأمان لأطفاله، فحمل أوجاعه وحقيبة ملابس، وسكن أحد صفوف المدرسة مع زوجته وأطفاله الخمسة، وكان يحاول طمأنتهم على الرغم من أن قلبه يرتجف من هول ما يسمع ويرى.
لكن الأمان لم يعمر طويلًا، ففي أواخر عام 2024، استهدفت طائرات الاحتلال أحد الصفوف المجاورة، لتطال الشظايا أسرته، وتصيب قدمه إصابة مباشرة أدت إلى تفتيت عظامها بالكامل، ويستشهد اثنان من أطفاله، في حين أُصيبت زوجته وابنته جوري بجروح.
ويقول حسام، الذي أصيب بشظايا في قدمه، لصحيفة "فلسطين": "كنت جالسًا على الأرض، أحاول أن ألهيهم عن أصوات القصف، دقائق فقط وسمعت صوتًا ضخمًا.. لم أشعر إلا وأنا على الأرض والدماء تغطي أجزاء من جسمي".
نُقل إلى المستشفى، وهناك بدأ مشوار الألم الحقيقي، فإصابته كانت خطيرة ومعقدة، وأخبروه أن العظام مهشمة بالكامل، ولا قدرة له على الوقوف أو المشي، ومنذ ذلك اليوم وهو طريح الفراش، لا يستطيع الحركة ولا تلبية أدنى احتياجات عائلته.
وقد استشهد اثنان من أطفاله أمام عينيه، وأصيبت زوجته وابنته جوري إصابات متفاوتة، "لم أستطع حمايتهم، المكان الذي جئنا إليه هربًا من الموت، سلّمهم إليه".
ويردف حسام بصوت منهك: "كلما أغمضت عيني، أراهم كأنهم يلعبون حولي، أسمع صوت ضحكاتهم".
اليوم، يعيش حسام مع ألم مضاعف؛ إصابة في جسده وجرح لا يندمل في قلبه، فلم يعد يقوى على حمل ذكرياتهم، لكنها تسكنه أكثر مما يسكنه الألم.
ويشير إلى أن ابنته جوري التي عايشت الحدث لا تتحدث كثيرًا.. تنام وهي تحضن صور إخوتها، وتسأل والدها باستمرار: "متى سنعود للبيت؟ هل إخوتي هناك؟"
أما زوجته رنا، فحملها الانفجار إلى جرح آخر لا يندمل، فقد بُترت يدها اليسرى، لتعيش بين وجعين: الأول يُهدّئه مسكّن الألم، والثاني لا دواء له، وجع العجز أمام احتياجات أطفالها وزوجها الذي لا يستطيع الحركة.
وقد سافرت إلى مصر لاستكمال علاجها وتركيب طرف صناعي، علّها تعود لعائلتها وتتمكن من احتضانهم، بدلًا من الشعور بالعجز في كل لحظة يئن فيها زوجها أو تطلب منها صغيرتها شيئًا، أو حتى تغيير ملابس أطفالها، لكنها حتى اليوم لم تتلق أي علاج في المستشفيات المصرية.
وعندما عادوا من نزوحهم، وجدوا أن ما كان يومًا بيتًا قد تلاشى تحت الركام، فلم يكن أمامهم سوى خيمة صغيرة نصبوها فوق أطلال الذاكرة، لا تقيهم برد الشتاء ولا لهيب الشمس.
يتابع حسام بحزن عميق: "كنا نعيش في بيت متواضع، لكنه كان دافئًا، فيه ضحكات أولادي، واليوم نعيش في خيمة كل ما فيها يذكّرني بمن رحل... حتى الحنين بات موجعًا".
الخيمة لا تُغلق أبوابها، فلا أبواب لها، ولا تمنح دفئًا، لأنها من قماش لا يصمد أمام الرياح والشتاء، أما البرد، فينخر في عظام من قست عليهم الحرب وسلبتهم الوطن والأمان.
وينتظر حسام اليوم تحويلة علاجية، علّها تعيده للوقوف على قدميه ويتمكن من العمل وتأمين لقمة عيش لأبنائه.

