فلسطين أون لاين

تقرير الغزيون يلجؤون للطين الأحمر بديلاً عن الأسمنت لمواجهة الشتاء

...
الغزيون يلجؤون للطين الأحمر بديلاً عن الأسمنت لمواجهة الشتاء
غزة/ عبد الله التركماني:

تحت سماء رمادية مثقلة بالمطر، كان سعيد عزام (47 عامًا) يعجن الطين الأحمر بيديه العاريتين قرب بقايا منزله المدمر جزئيًا في حي الرمال وسط مدينة غزة. يخلط التراب بالماء داخل حوض بلاستيكي مهترئ، ثم يرفعه على شكل كتل صغيرة ويضغطه بين حجارة جمعها بصبر من بين ركام بيته الذي سقطت جدرانه خلال القصف. لا أسمنت هنا، ولا حديد، فقط طين وأحجار وذاكرة بيت كان قائمًا يومًا ما.

على بعد أمتار، كانت مياه المطر تتسلل من كل اتجاه، تغزو الغرف المكشوفة وتحوّل الأرض إلى مستنقع بارد. يقول عزام لصحيفة "فلسطين" وهو يشير إلى جدار مائل: "جربنا الشوادر والنايلون والخشب، لكن المطر كان أقوى. كل منخفض جوي يدخل علينا البيت كأنه لم يعد بيتًا".

يتوقف لحظة، ينفض الطين عن كفيه، ثم يضيف بصوت متعب: "النايلون يطير مع أول هواء، والخشب يتعفن، والماء لا يرحم".

لم يكن بناء الجدار خيارًا، بل محاولة أخيرة للبقاء. جمع عزام حجارة منزله المتناثرة، رتّبها فوق بعضها، ثم بدأ بتثبيتها بالطين الأحمر الذي جلبه من أرض قريبة. يقول: "هذا الطين كنا نستخدمه زمان للحدائق، اليوم نستخدمه حتى نحمي أولادنا من الغرق". يضحك بمرارة، ثم يتابع: "لم أتخيل يومًا أن أبني بيتي بيدي هكذا، كأننا رجعنا مئة سنة إلى الوراء".

داخل الغرفة التي يحاول إغلاقها بجدار بدائي، ينام أطفاله الثلاثة على فرشات مبللة. تشير زوجته إلى الزاوية حيث يتجمع الماء وتقول: "في الليل لا ننام. نضع أوعية لنحجز المطر، ونبقى نراقب السقف. نخاف أن ينهار فوق رؤوسنا". تضيف وهي تمسك بطفلها الصغير: "الشتاء هنا صار عدواً آخر".

بالنسبة لعزام، الطين الأحمر ليس حلاً، بل هدنة قصيرة مع المطر. يقول وهو يعاود ضغط الطين بين الحجارة: "نعرف أن الجدار قد يسقط، لكن ماذا نفعل؟ الأسمنت ممنوع، ومواد الإعمار لا تدخل. إذا لم نبنِ بالطين سنبقى نغرق". ينظر إلى السماء ثم يختم: "نحن لا نطلب قصورًا، نطلب جدارًا يوقف المطر فقط".

r08YR.jpg
 

معاناة ثقيلة

يضاعف المنخفض الجوي الأخير معاناة سكان غزة الذين خرجوا مثقلين بعامين من حرب دموية مدمرة طالت نحو 90% من البنى التحتية في القطاع، وخلّفت عشرات آلاف المنازل المدمرة كليًا أو جزئيًا.

مع كل موجة مطر ورياح قوية، تتحول البيوت المتصدعة والخيام المؤقتة إلى مصائد خطر، في ظل غياب مواد الإعمار وآليات البلديات القادرة على التدخل.

واستشهد أول من أمس 14 شخصًا جراء انهيارات في المنازل المتضررة، بينهم أطفال ونساء، بعدما عجزت الجدران الهشة عن الصمود أمام الأمطار الغزيرة وتشبع التربة بالمياه. وفي شوارع غارقة بالمياه وأنقاض لم تُرفع منذ شهور، يجد السكان أنفسهم في مواجهة شتاء قاسٍ بلا حماية حقيقية، حيث لا يهددهم البرد والرطوبة فقط، بل خطر الموت تحت سقف لم يعد آمنًا.

الخيار الوحيد

على امتداد شارع المشتل في حي النصر غرب مدينة غزة، لم يعد مسجد أبو بكر الصديق معلمًا قائمًا بقبابه وجدرانه البيضاء، بل مساحة مفتوحة تتوسطها بقايا أعمدة متصدعة وأحجار سودتها النيران. بين هذه الأنقاض، كان شبان الحي يجتمعون منذ ساعات الصباح الأولى، يحملون المعاول وأوعية بلاستيكية مملوءة بالطين الأحمر، في محاولة لإعادة بناء جدار بسيط يعيد للمكان بعضًا من وظيفته المفقودة.

عامر فواز، شاب في العشرينات من عمره، كان يقف حافي القدمين، وقد غطى الطين يديه وملابسه. يقول لصحيفة "فلسطين" وهو يخلط التراب بالماء بعصا خشبية: "هذا المسجد تم تدميره مرتين. في كل مرة كنا نعيد ترميمه بجهدنا، واليوم لا نملك حتى الأسمنت لنبدأ من جديد". يتوقف ليلتقط أنفاسه، ثم يضيف: "الناس تريد مكانًا تصلي فيه، حتى لو كان الجدار من طين".

بحسب عامر، لم يكن القرار سهلاً، لكنه كان الخيار الوحيد. يوضح: "جربنا أن نغطي المكان بالشوادر، لكنها لم تصمد أمام المطر والرياح. المياه كانت تدخل من كل الجهات، وتغرق أرضية المسجد. لذلك قررنا استخدام الطين الأحمر لتثبيت الحجارة ورفع جدران بدائية تمنع المطر على الأقل". يشير بيده إلى جدار غير مكتمل ويقول: "لسنا بناة، لكننا نحاول أن نحمي بيت الله بما توفر".

داخل المسجد، فرش الشبان سجادات قديمة فوق أرضية غير مستوية، فيما وضعت حجارة ثقيلة لتثبيت الجدران الطينية الجديدة. يقول عامر: "نعرف أن هذا البناء مؤقت، وأنه قد لا يصمد طويلاً، لكن ما البديل؟ الأسمنت ممنوع، والحديد ممنوع، وآليات الإعمار لا تدخل". يضيف بنبرة حزينة: "حتى المساجد لم تسلم من الحصار".

أحد كبار السن في الحي يمر بجانبهم ويتوقف لمراقبة العمل. يقول: "هذا المسجد كان يجمع الناس في الأعياد والجنازات والدروس. اليوم نحاول أن نعيد له الحياة ولو بشكل بسيط". بينما يواصل الشبان العمل، ترتفع أصوات الأذان من مسجد بعيد، فيتوقف الجميع للحظة، ينظرون إلى الجدار الطيني الذي لم يكتمل بعد، وكأنهم يتأكدون أنه سيصمد حتى موعد الصلاة.

بالنسبة لأهالي شارع المشتل، لا يمثل الطين الأحمر مجرد مادة بناء بديلة، بل رمزًا للإصرار على الحياة والعبادة وسط الدمار. يقول فواز وهو يعيد خلط الطين: "إذا لم نعد بناء المسجد اليوم، فمتى؟ نحن نعرف أن الجدار قد يسقط، لكن إرادتنا لا تسقط".

في حي النصر، كما في كثير من أحياء غزة، لا تُعاد البيوت والمساجد بالأسمنت، بل بالإرادة والطين الأحمر، في مشهد يعكس كيف يحاول الناس حماية ما تبقى من روح المكان في وجه حرب لم تنته آثارها بعد.

الاحتلال يواصل الإغلاق

ولجوء السكان إلى الطين الأحمر كبديل عن الأسمنت ليس من فراغ، بل نتيجة مباشرة لسياسة إسرائيلية مستمرة تقوم على تقييد ومنع إدخال مواد إعادة الإعمار إلى قطاع غزة.

منذ بداية الحرب، تفرض دولة الاحتلال قيودًا مشددة على دخول الأسمنت والحديد ومواد البناء الأساسية، بذريعة الاستخدام المزدوج، ما أدى إلى شلل شبه كامل في مشاريع الترميم وإصلاح المنازل المتضررة جزئيًا.

مع اقتراب فصل الشتاء وتكرار المنخفضات الجوية، وجد آلاف السكان أنفسهم أمام خيار واحد فقط: ابتكار حلول بدائية لحماية ما تبقى من منازلهم.

ولا تقتصر هذه القيود على مواد البناء فحسب، إذ لا تزال دولة الاحتلال تمنع إدخال معدات إزالة الركام الثقيلة وآليات البلديات اللازمة لإعادة تأهيل البنية التحتية، بما في ذلك الجرافات، والرافعات، وشاحنات نقل الأنقاض، ومضخات المياه.

هذا المنع أبقى آلاف الأطنان من الركام في الشوارع والأحياء السكنية، وفاقم مخاطر تجمع مياه الأمطار، وانهيار الجدران المتصدعة، وانتشار الأمراض. وفي ظل غياب هذه الآليات، تعجز البلديات عن فتح الطرق، أو تحسين شبكات الصرف الصحي، أو حتى إزالة الأنقاض التي تهدد حياة السكان، ما يدفع الأهالي إلى الاعتماد على أدوات بدائية ومواد أولية مثل الطين الأحمر لسد الجدران ومنع تسرب المياه، في مشهد يعكس بوضوح كيف تحولت سياسات الحصار إلى عامل مباشر يعيد الحياة في غزة خطوات طويلة إلى الوراء.

حل اضطراري

بدوره، يقول مهندس البناء محمد الخالدي، الذي يعمل في هذا المجال منذ أكثر من 25 عامًا، لصحيفة "فلسطين" إن لجوء السكان إلى استخدام الطين الأحمر كبديل عن الأسمنت هو حل اضطراري فرضته ظروف الحصار ومنع مواد الإعمار، لكنه يبقى حلاً مؤقتًا لا يمكن الاعتماد عليه على المدى المتوسط أو الطويل.

ويشرح الخالدي أن الطين الأحمر المستخدم حاليًا هو خليط بدائي من تربة طينية ممزوجة بالماء وأحيانًا ببقايا كلس أو رمل، ويُستخدم لتثبيت الحجارة وسد الفراغات في الجدران المتضررة.

ويقول: "من حيث المبدأ، الطين يملك قدرة تماسك أولية، خاصة إذا جف في طقس معتدل، ويمكنه أن يصمد لفترة قصيرة أمام الرياح وتسرب محدود للمياه، لكنه لا يقارن بالأسمنت من حيث الصلابة أو المقاومة".

ويؤكد أن فعالية الطين تعتمد بشكل كبير على طريقة الاستخدام، موضحًا: "إذا استُعمل الطين لتعبئة الفراغات فقط، ومع وجود حجارة كبيرة متشابكة، يمكنه أن يبقى متماسكًا لأسابيع أو أشهر قليلة. أما إذا استخدم كعنصر إنشائي يحمل وزنًا أو يتعرض مباشرة لمياه الأمطار، فإن قدرته على الصمود تتراجع بسرعة".

وحول قدرة الطين الأحمر على مواجهة المنخفضات الجوية، يحذر الخالدي من المبالغة في الاعتماد عليه، قائلاً: "الطين بطبيعته مادة تمتص الماء. ومع الأمطار الغزيرة أو تكرار المنخفضات، يبدأ بفقدان تماسكه، ويتشقق، وقد ينهار جزء من الجدار، خصوصًا إذا لم يكن هناك تصريف جيد للمياه". ويضيف: "في أفضل الأحوال، يمكن للطين أن يصمد خلال منخفض أو اثنين، لكنه ليس حلاً آمنًا لفصل شتاء كامل".

ويرى الخالدي أن استخدام الطين يعكس حجم الأزمة أكثر مما يقدم حلًا هندسيًا حقيقيًا. ويقول: "نحن أمام عودة قسرية إلى تقنيات بدائية كانت تستخدم قبل عشرات السنين في ظروف مختلفة تمامًا. اليوم الكثافة السكانية عالية، والمنازل متضررة أصلاً، وأي انهيار قد يؤدي إلى إصابات خطيرة".

ويختم بالقول: "الطين الأحمر ليس بديلاً عن الأسمنت، بل مؤشر خطير على غياب مواد الإعمار. ما يحتاجه الناس ليس ابتكار حلول مؤقتة، بل فتح المعابر وإدخال الأسمنت والحديد وآليات البلديات، لأن كل جدار يُبنى بالطين هو جدار مهدد بالسقوط مع أول شتاء قاسٍ".

المصدر / فلسطين أون لاين