منذ اليوم الأول للهدنة المُعلَنة في العاشر من أكتوبر المنصرم، كان الغزيون يأملون أن تكون بوابة لانفراجٍ صحي بعد عامين من الانهيار الكامل للمنظومة الطبية، لكن الواقع استمرَّ على حاله: أدوية أساسية مفقودة، ومخازن شبه فارغة، وصيدليات لا تملك سوى ما تبقّى على رفوفها قبل أشهر طويلة.
وسط هذا الفراغ الطبي الخطير، بدأت رحلة بحث الناس عن "بديل" ولو كان جزئيًا، فكان اللجوء إلى الأعشاب والوصفات الشعبية خيارًا اضطراريًا لا رفاهية فيه، بل محاولة يائسة لسدّ فجوة الدواء.
قهوة بالليمون
أحمد بركات (40 عامًا) من حيّ تل الهوى جنوبي غزة، أصيب قبل أسبوعين بنزلة معوية شديدة. توجَّه إلى أقرب مستشفى، فوجد عشرات المرضى ينتظرون العلاج نفسه، وبعد ساعات من الانتظار، خرج الطبيب ليقول بمرارة: "لا يوجد مُطهِّر معوي… ولا أي دواء متوفر للإسهال".
يقول أحمد لصحيفة "فلسطين": "تفاجأت، كنت أنتظر وصفة دوائية، لكن الطبيب نصحني بفنجان قهوة مع عصرة ليمون عدة مرات في اليوم، وقال إنها وصفة مجرَّبة عند فقدان الدواء".
تردَّد أحمد في البداية، ثم جرَّب الوصفة، وبعد ثلاثة أيام اختفت الأعراض تقريبًا، لكنه يعترف: "لا أعرف إن كانت الوصفة فعَّالة فعلًا، أم أن النزلة كانت بسيطة وستنتهي وحدها، لكن في النهاية لم يكن لدي أي خيار آخر".
تجربة أحمد تعكس واقعًا يعيش فيه الناس على "بدائل النجاة" لا على العلاج المثالي.
لا بديل
أحلام صبيح (34 عامًا)، أمّ لخمسة أطفال من غزة، تعاني ابنتها منذ شهر الدودة المتحوصلة. جابت النقاط الطبية والمستشفيات، وطرقت أبواب أكثر من عشر صيدليات، لكن الجميع أجابها بالإجابة نفسها: "علاج الديدان مفقود، ولم يدخل منذ فترة طويلة".
تقول أحلام لـ"فلسطين" بفزع: "ابنتي لا تنام ليلها من المغص، تدخل الحمام أكثر من عشر مرات يوميًا. أشعر أنني عاجزة، ماذا أفعل؟ لا دواء ولا بديل".
ومع انسداد الأفق، لجأت إلى نصيحة بعض الجدّات: أن تبتلع الطفلة قطعًا صغيرة من الثوم النيء على الريق يوميًا، إضافة إلى تناول البصل النيء.
لكن أحلام تضيف بأسى: "لم تستطع ابتلاع الثوم، والبصل لم يُغيِّر شيئًا، حالتها كما هي".
طبيعي… لكن غير آمن
جميلة عبد العاطي (55 عامًا) من مخيم النصيرات، كانت تعاني ارتفاعًا بسيطًا في ضغط الدم، وكانت تتحكم به عبر دواء منتظم قبل الحرب، ومع بداية الهدنة نفدت أدويتها بالكامل.
تقول جميلة لـ"فلسطين": "قالت لي إحدى الجارات إن مغلي الزعتر مع ورق الزيتون يُخفِّض الضغط، وإنه طبيعي وآمن، كنت خائفة من الجلطات، فبدأت أشربه يوميًا".
لكن بعد أسبوع واحد، بدأت تشعر بدوار شديد وصداع وقيء، نُقلت على إثره إلى نقطة طبية، وتبيَّن أن ضغطها انخفض بشكل خطير نتيجة الجرعات الكبيرة من الأعشاب، التي تسببت باضطراب في أملاح الجسم، في ظل عدم تناول الطعام بشكل كافٍ بسبب شُحّ الغذاء.
تقول بحسرة: "كنت أحاول فقط أن أجد بديلًا، لكنني دخلت في حالة أسوأ".
إسعاف ذاتي
قال أخصائي التغذية العلاجية والتثقيف الصحي هشام حسونة: "ما يحدث اليوم في غزة هو (إسعاف ذاتي مجتمعي) وليس بديلًا كاملًا عن منظومة صحية منضبطة. الناس تتحرك على ثلاثة مسارات اضطرارية: تنظيم نمط الحياة كـ(دواء أول)، العلاجات المنزلية البسيطة، واللجوء الواسع للأعشاب والغذاء العلاجي، لأن أكثر من 40–50% من الأدوية الأساسية وصلت إلى (صفر مخزون)، حسب تقارير منظمة الصحة العالمية وأطباء بلا حدود".
وأضاف: "الطب البديل في الأصل محاولة اضطرارية، لكنه يمكن أن يكون جزءًا ناجعًا من الحل بشرط أن يتحول إلى (طب تكاملي) لا (طب بديل). نستخدم الغذاء والأعشاب لدعم الجسم وتخفيف الأعراض البسيطة فقط، أما عندما يتوفر الدواء الكيميائي الموثوق، فيبقى هو الأساس لعلاج العدوى الشديدة، والسرطان، والسكري المعتمد على الإنسولين".
وحذَّر حسونة بشدة: "لا الأعشاب ولا الغذاء يعوِّضان عن المضادات الحيوية في التهاب رئوي حاد أو تسمُّم دم، ولا عن الإنسولين لسكري النوع الأول، ولا عن أدوية الصرع أو الضغط أو العلاج الكيماوي. الطب البديل بلا ضوابط مخاطرة، ومع العقلنة يصبح جزءًا من طب تكاملي يُخفِّف آثار غياب الدواء، لكنه لا يبرره أبدًا".
وعن الوصفات الشائعة حاليًا، أوضح حسونة: "الزنجبيل والكركم والبابونج والقرنفل لها تأثير مُسكِّن خفيف إلى متوسط للآلام البسيطة فقط، ولا تُقارن أبدًا بالمورفين أو حتى الباراسيتامول في الحالات الشديدة. أما الثوم والبصل والزعتر والميرمية فتدعم المناعة وتحسِّن الهضم، لكنها ليست (تحصينًا سحريًا)، خاصة في بيئة ملوثة ومزدحمة كغزة".
وتابع بحزم: "بالنسبة للديدان المعوية وجرثومة المعدة، فإن نسبة القضاء الكامل بالأعشاب متواضعة جدًا مقارنة بالأدوية القياسية. يمكن استخدامها لتقليل الحمل الطفيلي مؤقتًا، لكن الحديث عن (استئصال جرثومة المعدة بالأعشاب فقط) مبالغ فيه وغير آمن".
أوهام علاجية
وكشف حسونة أخطر ما يراه اليوم بقوله: "الغذاء والأعشاب أدوات مساندة قوية، لكنها تصبح قاتلة عندما تُستخدم مبررًا لترك العلاج الدوائي المتاح. تأخّر علاج الالتهابات يؤدي إلى تعفُّن دم، وترك أدوية الضغط بحجة (الزعتر وزيت الزيتون) يزيد احتمالات الجلطات، ومريض السكري الذي يعتقد أن (القرفة والحبة السوداء) تُغنيان عن المتابعة قد يُصاب بفشل كلوي أو عمى".
وختم برسالة قوية: "أخطر شيء اليوم ليس فقط نقص الدواء، بل استغلال هذا النقص لبيع أوهام علاجية قد تقتل بصمت. تجربة غزة درس للعالم في الصمود والاعتماد على الغذاء ونمط الحياة كخط دفاع أول، لكنها ليست رخصة لأي شخص أن يعبث بصحة الناس تحت شعار (طبيعي، عشبي، بديل)… بلا علم، بلا رقابة، وبلا مسؤولية".

