«وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ، وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا» (الأحزاب: 25).
من رماد غزة، ينهض التاريخ بثوبه الأول: يعود الخندق، لا كتراب محفور، بل كقدرٍ يُعاد تشكيله تحت القصف. يظهر نبيّ الصبر في هيئة شعبٍ يمسك المعول ليحفر الأرض، لكنّه في الحقيقة يحفر مجده. وكما كان اليهودُ رأسَ الأحزاب يوم الخندق، فهم اليوم رأس الحربة في محرقة غزة؛ غير أن غزة اختارت الخندق كما اختاره نبيّها: حفرت بأظافر الجوع والدم أنفاقًا لا تراها العيون، لكن يراها الله، ويرتجف لها قلب العدو الذي زاغ بصره وبلغت روحه الحناجر.
وكما ربط النبي ﷺ الحجر على بطنه صابرًا، ربطت غزة المجاعة على خاصرتها، والبرد على أجساد أطفالها، وقالت للعالم كله: «حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ».
غزة اليوم لا تواجه جيشًا واحدًا؛ بل أحزابًا من شرق وغرب — من ترمب إلى تحالفات الإبادة العمرانية — ومع ذلك تصمد. ليست تمتلك قوة الحديد، بل قوة الوعد: وعد ربّها الذي لا يخلف الميعاد، وبشارة نبيّها الخالدة: «بعد اليوم نَغزوهُم ولا يَغزونا».
وتتكرر الآية: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا}
كأنها كتبت لتُتلى على غزة في ليلها. فكما كان يوم الخندق امتحانًا لصبر المؤمنين، ها هي غزة تخندق بأنفاق أطول من مساحتها، وتحفر صمودًا أعمق من حديدها.
لقد اجتمع الصحابة يوم الخندق حول ترابٍ واحد، فحمت المدينة؛ واجتمع أهل غزة — حصارًا وجوعًا ورجاء — فصنعوا من الأنفاق صروح عزّ، ومن الفقد مدرسة فداء. فالخندق لم يعد قصة ماضية؛ إنه اليوم سيرة تُكتب بالدم والرجال والنساء والأطفال.
وقال الله تعالى:
{سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرَّعْبَ}،
{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا}،
لتبقى سنته ماضية: إن نزل البلاء عَظُم الفرج، وإن طال الليل اقترب الصبح.
تهبّ الريح اليوم على خيام القتلة؛ تُساوي بين الخوف في قلوبهم والإيمان في قلوب أهل غزة. ينهار جهد أحزاب العصر، بينما يرتفع ثبات المؤمنين. وغدًا — بإذن الله — تُقتلع خيام المجرمين، ويمشي كبيرهم إلى الهزيمة كما مشى أبو سفيان ذات يوم: «يا محمد، لقد جئنا ولم نمتنع، فرجعنا ولم نصنع شيئًا».
وترفع غزة اليوم دعاء النبي ﷺ: «اللهم منزل الكتاب، مجري السحاب، سريع الحساب، هازم الأحزاب، اهزمهم وشتّت شملهم».
وترفع معه سرّ سلمان، وصبر الخنساء، وجرأة معاذ، وبأس داوود، وأنافة سعد، وحكمة نعيم، ومكر الإيمان، وترفع معه جيش الأنفاق… أبناء سلمان الفارسي الذين حوّلوا الأرض إلى خندقٍ جديد.
وفي درس سورة الأحزاب تتبدّى حقيقة كبرى: أن معركة الداخل — مع سوء الأخلاق والربا والأسعار والعادة والهوى والموروث — أشد من معركة السيف والرمح. ولذلك أفردت السورة معظم آياتها لإصلاح المجتمع، وتهذيب السلوك، وإبطال عادات متجذرة، والتنبيه على الطاعة، والغيرة على الحرمات، والتحذير من المنافقين. وكأن القرآن يخبرنا أن بناء الأمة من الداخل شرط لثباتها في مواجهة الأحزاب.
واليوم في غزة تتجلى الموازاة ذاتها:
محرقة تغيّر وجه الحياة، وتُسقط المدن، وتُهدم البيوت، وتملأ القبور، لكنّها في الوقت نفسه تفرض استجابة أخلاقية وروحية عظمى:
استجابة عمل، وتعاون، وتكافل، وصبر، وإيثار، وتجاوز للكسل واليأس.
إن الواجب اليوم:
العمل… العمل الذي يفتح باب الفرج، ويزرع الأمل، ويرفع قدر الإنسان.
فالنصر لا يناله القاعدون ولا المستعجلون:
{فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا}،
{وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا}.
وغزة — رغم تعبها وجراحها — تحمل بشارات الله:
{وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا، نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ}.
نصر الله مقرونٌ بحسن الظن والعمل، ولذلك تبدأ سورة الشرح بفتح الصدر وتنتهي بالعمل والرجاء:
{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}،
{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ}،
{وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}.
ثم يأتي وعد الحضور الإلهي:
{وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ}.
هكذا تعيد غزة اليوم كتابة الخندق…
وتعيد البشرية كلها قراءة سورة الأحزاب من جديد.

